رحيل نجاد أم رحيل مؤسسة الرئاسة؟!

TT

لا أزال أتذكر المرة الأولى التي تصدر فيها الرئيس الإيراني الحالي، أحمدي نجاد، سباق الرئاسة في إيران عام 2005. كنت عائدا بالقطار من برلين إلى نورنبرغ، وقد ابتعت نسخة من جريدة «الشرق الأوسط» و«الهيرالد تربيون». كانت جميع التوقعات قبل الانتخابات منصبة على الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني الذي كان حتى ذلك الوقت من المنتقدين للحركة الإصلاحية، وعلى منافسه الشاب محمد باقر قاليباف، الذي كان يشار إليه بوصفه مرشحا مقربا من المرشد الأعلى، ويحظى بدعم من بعض قادة الحرس الثوري.

فوز أحمدي نجاد كان مفاجأة بحد ذاتها، فمنافسوه كانوا أكثر كفاءة وحضورا منه في العمل السياسي، فشخصيات مثل مهدي كروبي أو علي لاريجاني، كانوا أكثر منه حظا لو كانت المنافسة مبنية على المؤهلات الدراسية والخبرة العملية فقط، ولكن انتزع أحمدي نجاد الرئاسة على الرغم من أن جمعية مهندسي الإسلام التي كان ينتمي إليها لم تعطه صوتها، ولكن فاز كمرشح لـ«ائتلاف آبادكران» (ائتلاف بناة إيران) الإسلامي.

حين أصبح أحمدي نجاد رئيسا لم تكن هناك معلومات كافية عن سياساته أو برنامجه الرئاسي، كل ما كان يعرف عنه هو أنه كان محافظا لطهران نال شعبية واسعة عبر تركيزه على جعل العاصمة نظيفة، ومكافحة الفساد في إدارة المحافظة، حتى قيل عنه إنه أفضل محافظ شهدته العاصمة منذ الثورة.

ولد أحمدي نجاد في عائلة فقيرة، وقد كان لبعض أقاربه صلات مع المرشد خامنئي أثناء سنوات المعارضة، وحين قامت الثورة انضم أحمدي نجاد إلى الحرس الثوري، وقد تدرج في الوظائف حتى عين حاكما لأردبيل، ولكن بمرور الوقت عاد أحمدي نجاد للجامعة محاضرا، حيث حصل فيها على درجة الدكتوراه، ولكن اسم أحمدي نجاد برز بقوة في ذروة المواجهات ما بين التيار الإصلاحي والمحافظ بعد عام 2002، وكان له دور في تنظيم ودعم المحافظين في الانتخابات البرلمانية في 2004. بيد أن علاقته بالمرشد لم تتوثق إلا بعد أن أصبح محافظا للعاصمة في 2003، ولكن حتى تلك العلاقة لم تكن لترقى إلى الدرجة التي تصل إلى أن يرشح شخص مثل أحمدي نجاد رئيسا للدولة.

لقد كتب الكثير عن ذلك التحول المفاجئ، فهناك من يرى أن المرشد كان ينوي دعم ترشيح قاليباف، ولكن تهم الفساد التي دارت حول أخيه، دفعت بالمؤسسة إلى دعم أحمدي نجاد في اللحظة الأخيرة، على الرغم من معارضة بعض أركان النظام لذلك. أما التفسير الآخر لصعود أحمدي نجاد، فهو أن المرشد كان يريد أن يأتي بشخصية مغمورة وضعيفة لتكون في الرئاسة، حتى يستطيع تحجيم دورها الذي أضاف إليه كل من رفسنجاني ومحمد خاتمي الكثير من الأهمية.

أيا كان السبب في فوز أحمدي نجاد في الولاية الأولى، فإن الدعم والمساندة اللذين نالهما في انتخابات عام 2009، كانا بمثابة الدليل الواضح على أن نجاد يحظى بدعم المرشد، وكذلك الحرس الثوري، ولكن نجاد في ولايته الثانية تعرض للكثير من التهميش والنقد حتى من داخل التيار المحافظ، الذي كان يحسب عليه. ففي يوليو (تموز) عام 2009، أجبر على عزل نائبه إسفنديار رحيم مشائي، وحين حاول أن يمدد نفوذه عبر عزل بعض رجال الدولة المحسوبين على مؤسسة المرشد، مثل حيدر مصلحي وزير الاستخبارات في مايو (أيار) عام 2011، لم تكن النتيجة في صالحه، حيث أجبره المرشد على التراجع عن قراره.

حاول أحمدي نجاد الاحتجاج عبر مقاطعة جلسات مجلس الوزراء، ولكنه تلقى رسالة واضحة بأنه إذا واصل اعتراضه، فإن رجال المرشد في البرلمان قد يطرحون الثقة عن حكومته، ويلجأون إلى انتخابات مبكرة. تراجع نجاد وظل بعد ذلك غير سعيد باستقواء خصومه من داخل المؤسسة المحافظة ضده والمقربين منه، لا سيما عبر اتهامه بخلق تيار منحرف وفاسد. صحيح أن نجاد تمكن من عزل وزير الخارجية منوشهر متقي بطريقة مذلة حين كان في زيارة للسنغال، ديسمبر (كانون الأول) 2010، ولكن لم يلبث متقي إلا أن أسس جبهة «توحيد وعدالت» بمباركة من المرشد، لكي يحقق المركز الرابع في انتخابات مجلس الشورى الأخيرة. ولكن كيف هبطت شعبية نجاد من رئيس مقرب من المرشد وتيار المحافظين، إلى شخص ضعيف ومهزوم ينتظر الأشهر الباقية من رئاسته؟ أحمدي نجاد هو ضحية لطموحه، فالرئيس الذي كان يعتمد بشكل كامل على توجيهات المرشد في بداية حكمه، تحول مع الوقت إلى زعيم ديماغوجي يقود تيارا شعبيا من فقراء الأرياف، ويعتمد بشكل كبير على خطاب ديني يمزج القومية الفارسية بالنبوءات المهدوية. ليس هذا فحسب، بل إن مواقفه المتشددة في الملف النووي، وتصريحاته النارية الداعمة للمقاومة في لبنان وغزة وفرتا له حضورا بارزا في المنطقة، لا سيما بين أنصار الخط الراديكالي.

بيد أن تنامي شعبية أحمدي نجاد كان لها آثار سلبية، لا سيما حين حاول بعض المقربين منه استثمار تلك الشعبية وتحويلها إلى قوة سياسية رئيسية في البلاد، ولعل هذا ما يفسر سعي خصوم نجاد - وبدعم من المرشد - إلى تقليص صلاحياته، ومحاكمة رجاله بتهم الفساد، وشن حملة إعلامية متواصلة ضد سجله الحكومي.

نتائج الانتخابات الأخيرة هي دليل كبير على تراجع نفوذ نجاد، فقد تعمد النظام أن يدعم أحزابا وتحالفات جديدة في المنافسة، بحيث أسقط في صناديق الانتخابات أغلب الأسماء التي كان ولاؤها للولي الفقيه ضعيفا، مما دفع ببعض حلفاء نجاد في انتخابات 2009 إلى أن يخوضوا الانتخابات الأخيرة بعيدا عنه. في حوار أجراه أمير طاهري مع أبو الحسن بني صدر - الرئيس الإيراني الأسبق - في منفاه الباريسي عام 1981، قال بني صدر إن الملالي لا يصلحون – بل ولا يمكنهم – إدارة الدولة، واعتبر أن له شعبية كبيرة في الداخل، وأن مؤيديه ينتظرون اللحظة المناسبة للخروج في احتجاجات شعبية، وأنه على ثقة من دعم المؤسسة العسكرية له في النهاية. أما بخصوص الإمام الراحل الخميني، قال بني صدر: «سأنقله إلى قم، وسأمنعه من الاتصال بأي نشاط سياسي» (مجلة «المجلة» 14 أغسطس/ آب 1981). طبعا، استمر الخميني مرشدا حتى وفاته، وظل بني صدر منفيا وتقطعت به السبل.

مشكلة أحمدي نجاد أنه تصور أن بوسعه أن يظل زعيما لإيران، وأن المرشد في حاجة إليه لكي يواجه المعارضة، ولكن ما شهدناه مؤخرا هو أن المرشد استعاد سيطرته الكاملة على البرلمان، وبات بإمكانه - كما لمح سابقا - إلغاء منصب الرئاسة والاكتفاء برئيس وزراء من الأكثرية النيابية، حتى يكون بمقدوره عزل الرئيس في أي لحظة ومن دون الرجوع إلى أي جهة تشريعية.

يقول الباحث خوان كول: «يركز الكثير على أحمدي نجاد، ولكنهم ينسون أن الرئاسة في النظام الإيراني مؤسسة محدودة الصلاحيات. المرشد الأعلى هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو الذي يقرر السياسات العليا كتلك المتعلقة بالملف النووي. أما منصب أحمدي نجاد فهو أقرب إلى منصب جو بايدن، نائب الرئيس الأميركي، الذي لا يملك أي صلاحيات تنفيذية».

لا شك أن مسألة خروج أحمدي نجاد من الساحة السياسية باتت محسومة، ولكنها تطرح تحديا حقيقا لنظام الخلافة في إيران، في حال وفاة المرشد أو تفجر الصراع على خلافته. فالمرشد يسيطر حاليا وبشكل مباشر على الجيش ومؤسسة الحرس الثوري، ولديه ثلاثة أحزاب موالية تمثل الأكثرية في المجلس، وإذا ما تمكن من إلغاء منصب الرئاسة، فلن تكون هناك أي مؤسسة خارج الإشراف المباشر لمكتب المرشد.

حين اغتيل آية الله بهشتي، يونيو (حزيران) 1981، وعدد كبير من قيادات الحزب الجمهوري الإسلامي، قيل إنه لم يتبق من أعضاء المجلس السري للثورة إلا آية الله منتظري، ولم تمض سنوات حتى تخلص النظام من بقية المنافسين. أما اليوم، فإن المرشد يجلس - ربما للمرة الأولى - وحده في سدة الحكم من دون منافس. في خطاب تنصيبه كمرشد أعلى يونيو 1989، قال خامنئي: «ما أنا إلا فرد بأخطاء ونواقص كثيرة، ولست إلا طالب علم مبتدئا».