عالم «كله» خرائط!

TT

إحدى أشهر الروايات العربية التي صدرت قديما كتبها المؤلفان العربيان عبد الرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا، في تأليف ثنائي فريد من نوعه، واختارا لها عنوانا عبقريا جميلا هو «عالم بلا خرائط»، وفيها تطرق الكاتبان إلى عالم افتراضي سياسي خيالي رومانسي.. حالة عن مدينة رمزية اسمها «عمورية». واليوم يعيش العالم العربي فترة عصيبة للغاية يبدو أن شعارها الأكبر هو عالم كله خرائط.

فبعد تغيير خريطة العراق، واستحداث إقليم كردستان فيها بشكل شبه مستقل عن الدولة الأم، وتكرار التداول عن استحداث مناطق أخرى بالمزايا نفسها، وكذلك الأمر بعد استقلال جمهورية جنوب السودان عن الوطن الأم، ها هي الآن «خريطة جديدة» لليبيا يجري الحديث عنها، مقسمة البلاد إلى مناطق، أولاها تم الإعلان عنها بشكل عملي عبر إعلان فيدرالية منطقة برقة في الشرق الليبي، ويبقى الإعلان عن منطقة «فزان» عما قريب، لتمثل المنطقتان مع «طرابلس» المناطق الثلاث التي ستشكل ليبيا الجديدة بحسب ما يتم طرقه. وكذلك هناك طرح لاستقلال اليمن الجنوبي «مجددا»، وطبعا مع عدم إغفال «الخريطة الخفية» التي روجت عن مصر بقوة وقسمت البلاد لمناطق أربع، واحدة للأقباط وأخرى للنوبة وواحدة للبدو في سيناء والأخيرة لباقي سكان البلاد.

وطبعا يروج الناس بقوة الآن أننا اليوم بصدد حقبة «سايكس بيكو» جديدة، في إشارة مقارنة لما حدث من اقتسام وتقسيم لأراضي البلاد العربية بعد سقوط الخلافة العثمانية، وحصول الاستعمار الفرنسي والبريطاني عليها بالتساوي والتراضي.

ويغفل ويتناسى المتبنون لفكرة النظرة التآمرية هذه وجود خلل سياسي واجتماعي وثقافي وفكري حاد في المناخ العربي. فثقافة الظلم تتفوق على ثقافة العدل، وثقافة التفرقة تتغلب على ثقافة المساواة، وثقافة العنف تهزم ثقافة التسامح، فاليوم في ظل انهزام رقي مفهوم الدين على حساب مفهوم الطائفة والمذهب، وفي خضم انهزام ثقافة المواطنة لصالح المنطقة، لا عجب أن تكون هناك انتماءات «أخرى» بجانب الانتماءات الأساسية، فتنتج عن ذلك كله بشكل طبيعي وبديهي ومنطقي ثقافة القلق والخوف والتشكيك في الآخر والآخرين، فتكون ولادة المجتمعات الضعيفة والكيانات الهشة. وبالتالي فإن الحديث اليوم عن تقسيم سوريا مثلا والتهديد بإعلان الدولة العلوية في حال تنحي أو خروج بشار الأسد من الحكم بشكل إجباري، وذلك كوسيلة تهديد وتخويف لمن يجرؤ على ذلك، هو تأكيد لسقوط قاطع لفكرة أن «البعث» أو نظام بشار الأسد هو نظام علماني ولا توجد فيه أي ملامح للطائفية بأي شكل من الأشكال، لأن النظام السوري بسياساته وتصرفاته هو الذي زرع الطائفية وولد درجات العداء بين طوائف المجتمع نظرا لرعايته الفجة لإحدى الطوائف في كل المناصب الحساسة على حساب الأطراف الأخرى، حتى بات ذلك نهجا صريحا وواضحا لا غبار عليه أبدا.

اليوم أشكال وأنواع الخرائط التي تروج في العالم العربي هي نتاج لكل التصرفات السيئة والتراكمية عبر السنوات وعبر الأجيال وعبر الزمان، وهو ما ولد أجيالا مكسورة وخائفة وقانطة وغاضبة، بات أبسط أمانيها الخلاص من الظلم والإحساس بالكرامة وتقدير معنى واقعي وعملي لمفهوم العدل والحق وليس الحديث عنه بالشعارات والتغني به فقط في المناسبات العامة. إننا اليوم في مرحلة مفصلية في العالم العربي، فالموضوع له علاقة بقيمة الإنسان وليس بقيمة الأرض التي يعيش فوقها، فخريطة لا تمنح مواطنها كرامته وحقوقه وآدميته لا تساوي الحبر ولا الورق الذي كتبت عليه وفصلت تضاريسها فوقه.

لا تهتموا بخرائط ترسم وتروج بقدر اهتمامكم بكرامة مواطن تستباح.

[email protected]