زيارة أخرى للأستاذ هيكل

TT

شخصيا أكره أن أتحدث عن أشخاص، إلا إذا كان الحديث له بُعد عام وجوهري يرقى إلى المبادئ قبل الأشخاص، فلا بد، والأمر كذلك، أن يتناوله المهتم بما يستحق من جدية، والإشارة هنا إلى ما نشره الأستاذ محمد حسنين هيكل في عدد من المقالات حول «مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان» قرأتها بعناية بعد أن وصلت إليّ كاملة، وقد قيل إن السياسة بلا تاريخ ليس لها جذور، وإن التاريخ بلا سياسة ليس له بذور، ما ينقص في كل المقالات هو البذور المستقبلية.

محمد حسنين هيكل هذه المرة يقود حملة شعواء على رئيس مصر السابق المريض، الذي انفض من حوله الأنصار، وتلاشى الحواريون، ولم يعد يستطيع أحد أن يتساءل حول ما يقال عنه وحوله، لأن كل ما يقال يتلقفه جمهور لا يريد أن يسمع أو يقرأ إلا سيلا من الاتهامات، وليست مهمتي أن أدافع، ولكن أن أتبصر.

أقف أمام فكرتين جاء بهما الأستاذ هيكل قبل أن أدخل في التفاصيل؛ الفكرة الأولى، وأنا أنقل بدقة ما كتبه الأستاذ، حيث يقول: «وقد راعني كما راع غيري أن كثيرا من هؤلاء الذين عملوا مع (مبارك) مباشرة، كانوا من أوائل من انقلب عليه»، وهي إشارة يعرف الأستاذ أنها طبيعة الكثير من الناس، خاصة من انقلب على الرؤساء في مدى نصف قرن، ولعلي أذكر هنا «خريف الغضب» الذي شن فيه الأستاذ على الرئيس السادات حربا كلامية طالت حتى أصول والدته السوداء، بعد أن كان في مكانة أقرب إليه من حبل الوريد، بل إنه كان - كما قال سابقا - من نظم الانقلاب لصالح السادات على «مراكز القوى» التي كانت لصيقة بعبد الناصر! تلك واحدة، أما الثانية فتظهر في قول السيد هيكل، كما نقله إلينا، عندما حاول مبارك نصحه بعدم لقاء الملك حسين (رحمه الله) في محاولته متابعة أحداث احتلال العراق للكويت، حيث قال لمبارك: «من حق الملك أن يقول ما يشاء، وعلي أن أفرز ما أسمع»، وأنا هنا أستخدم نفس المنطق، فمن حق الأستاذ أن يقول ويكتب ما يشاء ومن حق القراء، وأنا واحد منهم، أن أفرز ما أقرأ. متجاوزا الآن خاصة خلفية كتاب «حرب الخليج»، الذي هو نسخة منقحة من كتاب بيتر سالنجر، المستشار الصحافي لكيندي، وكان بعنوان «الأجندة الخفية لحرب الخليج»، والذي ثبت لاحقا أن أكثر ما جاء فيه من تلفيقات مخابرات صدام حسين، ولكن تلك قصة أخرى.

عن طريق الفرز أرى أن هناك أربع قضايا تظهر إلى العلن من خلال ما كتبه الأستاذ هيكل في «مبارك وزمانه»، وهي قضايا غيض من فيض، لا تسمح المساحة بأكثر من الإشارات العابرة إليها.

أولى القضايا: يخرج القارئ بفهم لا لبس فيه أن مبارك متهم بقضايا كبرى من قبل أن يصبح رئيسا لمصر، منها أنه قد دبر أو اشترك في وقت ما وهو ضابط في وفد أرسل إلى السودان برئاسة الرئيس السادات وهو نائب رئيس لمساعدة جعفر النميري في التغلب على مناوئيه من الأنصار بقيادة الإمام هادي المهدي، فقد قتل الإمام هادي المهدي (كما يؤكد الأستاذ) بسلة لفاكهة المانجو ملغومة! وكان خلف السلة اللواء حسني مبارك! تلك قصة فيها أقوال؛ الأول أن السادات ومبارك ذهبا إلى هناك بأوامر من الرئيس عبد الناصر وقتها (أحداث جزيرة أبا التي يذكرها الأستاذ انتهت في مارس «آذار» 1970، وتوفي عبد الناصر في سبتمبر «أيلول» 1970) وبالتالي فإن المنطق يقول، لو صح القتل بالتفجير، فقد علمت بذلك القيادة العليا المصرية، خاصة تأكيد الأستاذ هيكل في أكثر من مكان قوله إن «أولى مزايا مبارك طاعته لرؤسائه، ينفذ ما يطلبون بلا اعتراض»، إذا كانت تلك أولى مزاياه، فإن الافتراض الصحيح أنه «منفذ» لما يريده الرؤساء. يترك الأستاذ الإضاءة الحقيقية على عملية قتل الإمام الهادي غامضة، وفي المتداول الصحيح أنه قُتل بعد اشتباك أثناء فراره إلى شرق السودان، بعد أن جُرح ثم أجهز عليه بأوامر من الخرطوم وقتها، ذلك تقريبا ما يعرفه كل سوداني اليوم.

تذهب سلسلة الاتهامات إلى كون مبارك شريكا في شركة السلاح مع حسين سالم، ويفيض الأستاذ في أشكال كلامية تبدو أنها «سيناريوهات» فيها اللقاء بالصدفة مع حسين سالم، المتهم اليوم ببيع الغاز لإسرائيل و«عمدة شرم الشيخ» وصديق مبارك، ويشير إلى قضايا بهذا الخصوص رفعت في أميركا جاء اسم مبارك فيها، إلا أن كل ذلك السرد القريب من الصور السينمائية لا يؤكد لقارئ مستقل أي صلة حقيقية بين مبارك وشركة «البستكو»، التي تنقل السلاح الأميركي إلى مصر والشرق الأوسط! ثم يتناول تهمة أخرى عجيبة، وهي أن مبارك رفض رفضا قاطعا أن يترشح أخوه سامي مبارك في انتخابات مجلس النواب، وبعد أن حاول مقنعوه كل جهدهم أن يتركه يترشح، وقد فقد وزير الداخلية وقتها، حسن أبو باشا، الذي سمح بالترشيح لسامي، منصبه بعد الانتخابات بسبب ذلك، وهذه للعاقل تصبح لصالح مبارك وليست ضده، فإنها من زاوية محاولة لإبعاد اسم العائلة عن التربح السياسي، وهكذا تسير التهم واحدة بعد الأخرى بعضها دون دليل مقنع وثابت غير أقوال مرسلة لهذا الصحافي وتلك الصحيفة، وبعضها إيجابي حاول الأستاذ أن يغلفه بسلبية!

الثانية: التهكم: لم يترك الأستاذ أحدا دون أن يتهكم عليه في المسيرة، فأشار إلى مبارك بالبقرة الضاحكة، وحتى من سماهم الأستاذ بأصدقائه، فبسبب علاقتهم بمبارك تم التهكم عليهم، فقد تحدث أكثر من مرة عن أسامة الباز، وهو الرجل المهم في الحياة السياسية المصرية لعقود، بأنه «كان يحمل دفتره الأصفر ويأتي إليّ».. كما يتهكم على مبارك نفسه بأنه قال، وقد كان موفدا من السادات إلى تيتو، زعيم يوغوسلافيا وقتها، إن مبارك (كما نقل له السفير المصري وقتها، جمال منصور) لم يكن مهتما عندما انتهت المقابلة إلا بالطلب من السفير أن يعرف من أين يأتي تيتو بأحذيته، وهل هي تفصيل أو جاهزة! في إشارة واضحة لاهتمام مبارك بالقضايا الجانبية التافهة، ويعود إلى حكايات الملابس والهدايا من دول الخليج بروح تهكمية، وربما لإثارة الفقراء والمحرومين قليلي الحيلة الذين ما زالوا يقرأون للأستاذ، حيث قال إن دول الخليج ترسل عينات من الهدايا إلى السيدة سوزان قبل أن تبدأ زيارتها من أجل أن تختار نوع الهدية التي سوف تقبلها عند الزيارة! كما لا يترك الأستاذ الحديث عن الصحافي إبراهيم سعدة، الذي دعاه للكتابة بعد طول انقطاع في الصحف المصرية، يقول عند انقطاعه عن الكتابة، غامزا: «لم أشأ إحراجه وأمامه فرصة لتولي رئاسة مجلس إدارة (أخبار اليوم)»! ويستطرد الأستاذ في هذا النوع من التهكم حتى لمن ساعده في المعلومات، وهو مدير المخابرات الفرنسي، ألكسندر دي ميرانش، حيث يشير إلى إدمانه الكحول، فقد كان يطلب كأسا من الويسكي في العاشرة صباحا! وحتى الألوان الداخلية للطائرة الرئاسية التي كانت في المرة الأولى من السعودية والثانية من ليبيا، كما يقول، تغيرت ديكوراتها بعد تصميمها من كبار المصممين إلى ذوق (شعبي) لا مؤاخذة من رئيس مصر! بل ولا يترك الإشارة إلى إهانة مبارك لعمرو موسى أمام رفيق الحريري!

الثالثة: تضخيم الدور، وهذا ليس جديدا على الأستاذ، الذي سها عند إشاراته لمبارك عن أنه يهتم بالتفاصيل التافهة، فهو يقوم بذلك لاشعوريا، فيصر مثلا على أن مبارك كان يناديه «محمد بيه»، وأن مبارك لم يكن على دراية بأنواع السيجار حتى اقترح عليه الأستاذ الأنواع الفاخرة، وأن زجاجة النبيذ التي أمر بها حسين سالم في دعوته في جنيف على الغداء تساوي عشرة آلاف دولار! لمحها الكاتب وحدد ثمنها وهو «لا يشرب أبدا»! كما أن الملك حسين قد أخر الطائرة التجارية بكل ركابها ساعتين في مطار عالية الدولي من أجل الأستاذ، ثم لم يفته أن قائد الطائرة أعلن للركاب أن التأخير من أجل الأستاذ لأنه كان مع جلالة الملك! بل ويتذكر اسم كلبة جيسكار ديستان، وأن حسين سالم يناديه بـ«سيادتك»، بعد كل ذلك يعيب على مبارك أنه يهتم بالتفاصيل! ولا يلحظ القارئ أن الأستاذ لم يطلب مرة واحدة، ولو يتيمة، أن يتصل بأحد، الكل يتصل به ويرجو لقاءه من ميتران إلى شيراك إلى الملك حسين! وأنه رفض حتى التقاط صورة له مع مبارك عندما دعاه الأخير لذلك! ينهي الأستاذ هيكل ما كتب حول مبارك بمقولة إن مبارك «لا ينسى إساءة ولا يتذكر فضلا»! أرجو أن يقرأ الأستاذ بجدية تلك المقولة، فهي وإن كانت (ربما) تنطبق على مبارك فهي بالتأكيد تنطبق على آخرين.

الرابعة: لقد كتب الأستاذ كل ذلك في «مبارك وزمانه» اليوم، ونسي أنه كتب قبل ذلك، وبالتحديد قبل 27 عاما بعد أحداث الأمن المركزي عام 1986 ومبارك في سدة الرئاسة، كتب يقول: «الرجل الذي وضع الشعب على كتفه مسؤولية مصر تاريخا وحاضرا ومستقبلا (مبارك) هو بدوره أمانة في ضمير كل مصري، ولنا جميعا أن نتطلع إليه، فوق كل الأزمات وفوق كل الخلافات، فهو الحكم قبل أن يكون الحاكم»، هكذا أشاد بمبارك.

لم أكتب ما تقدم لأدافع عن أحد ولا لأنقد أحدا، كتبت ما سبق من أجل القول إن كبارنا ما زالوا في الماضي يحاكمونه ويدينونه، أما المستقبل، وهو المهم، فلا حديث حوله، ولا أرى أن مصر أو غيرها من بلاد الربيع تستطيع أن تتقدم دون قضاء مستقل وبناء مؤسسات حديثة في صلبها سقف زمني قاطع لفترة الوظيفة لكل إداري؛ من الرئيس إلى الوزير إلى المدير، وأيضا نفوس تستطيع أن تقول للمخطئ وهو في السلطة: أنت مخطئ. لا بعد أن يُكبل ويُنقل على سرير! والأخيرة قضية ثقافية عميقة لا أعتقد أن بوسعنا ممارستها!

آخر الكلام:

جاء الأستاذ على ذكر بعض السادة المعروفين اليوم في الفضاء العام وهم أحياء، فهل نسمع منهم تأكيدا أو نفيا لما أورده الأستاذ؟! هم مطالبون بذلك من أجل التاريخ!