الجهل قوة

TT

لطالما كانت إحدى الميزات التي نتميز بها نحن الأميركيين، اهتمامنا بالتعليم ودعمنا له، حيث بدأنا باحتلال الصدارة في «التعليم الأساسي العالمي»، ثم جاءت «حركة المدارس الثانوية» لتجعلنا أول شعب يتبنى تعميم التعليم الثانوي. وبعد الحرب العالمية الثانية، ساعد الدعم العام، مثل قانون الجندي «جي آي بيل» والتوسع الكبير في الجامعات العامة، أعدادا ضخمة من الأميركيين في الحصول على درجات جامعية.

أما الآن، فإن أحد الحزبين السياسيين الكبيرين لدينا قد اتخذ وجهة أخرى ضد التعليم، أو على الأقل ضد التعليم الذي تستطيع الطبقة العاملة من الأميركيين تحمل نفقاته. واللافت للنظر أن هذا العداء الجديد للتعليم يشترك فيه الجناح المحافظ سواء الاجتماعي أو الاقتصادي داخل الائتلاف الجمهوري، متجسدا في شخص كل من ريك سانتورم وميت رومني.

يأتي هذا في وقت يعاني فيه النظام التعليمي الأميركي بالفعل متاعب جمة.

ومن مظاهر هذا العداء، تصريحات سانتورم التي احتلت العناوين الرئيسية للصحف التي قال فيها إن الرئيس أوباما يريد أن يتوسع في حجم القيد بالكليات لأن الكليات عبارة عن «معامل للغرس والتلقين» تعمل على تدمير الإيمان الديني. لكن الأخطر هو رد رومني على طالب بالسنة النهائية بإحدى المدارس الثانوية الذي أبدى قلقه بشأن مصاريف الدراسة بالكليات، لأن ما قاله يفتح الطريق أمام سياسات تعليمية للدولة من شأنها تقويض النظام التعليمي الأميركي أكثر وأكثر.

وهذا هو ما قاله مرشح الرئاسة للطالب بالضبط: «لا تذهب إلى كلية تطلب مصروفات باهظة. اذهب إلى كلية ذات مصروفات أقل قليلا وتقدم لك مستوى جيدا من التعليم. وآمل أنك ستجد مثل هذه الكلية. لا تنتظر من الحكومة أن تتنازل عن الدين الذي تحصل عليه».

ياللهول! هذا كثير على التراث الأميركي في تقديم الدعم المادي للطلاب. بل إن عبارات رومني قاسية وهدامة أكثر مما تتصور، في ظل ما يحدث مؤخرا في التعليم العالي الأميركي.

على مدار الجيلين السابقين، كان اختيار مدرسة ذات مصاريف أقل يعني بشكل عام الذهاب إلى جامعة عامة وليس إلى جامعة خاصة، أما الآن فقد أصبح التعليم العالي العام نفسه تحت حصار شديد، حيث يواجه تخفيضات في نصيبه من الميزانية العامة أعلى بكثير من باقي القطاع العام، فقد انخفض الدعم الحكومي للتعليم العالي بنسبة 12 في المائة تقريبا خلال السنوات الخمس الماضية للتكيف مع ظروف التضخم، بينما يستمر عدد الطلاب في الارتفاع؛ بل وصل تخفيض الدعم في كاليفورنيا إلى 20 في المائة.

وكان من نتائج ذلك حدوث ارتفاع هائل في المصروفات الدراسية، حيث تم رفع المصروفات الدراسية في الكليات العامة التي تنقسم الدراسة فيها إلى أربع سنوات، بما يزيد على 70 في المائة خلال العقد السابق للتماشي مع التضخم. إذن، فمن أين نأتي بتلك الكلية «ذات المصروفات الأقل»؟!

وكان من نتيجته أيضا أن أصبحت المؤسسات التعليمية التي تعاني من عدم وجود تمويل كاف تتوقف عن تدريس المجالات المكلفة بتدريسها، التي يتصادف أنها بالضبط هي المجالات التي يحتاج إليها الاقتصاد. على سبيل المثال، قامت الكليات العامة في عدد من الولايات، من بينها فلوريدا وتكساس، بإلغاء أقسام كاملة في الهندسة وعلوم الكومبيوتر.

لن يكون من العسير معرفة ما تؤدي إليه هذه التغييرات من أضرار، سواء بالنسبة لمستقبل النظام الاقتصادي في بلادنا أم بالنسبة للحلم الأميركي الضائع في تكافؤ الفرص. إذن، فلماذا يتحمس الجمهوريون كل هذا الحماس لتخريب التعليم العالي؟

وليس من الصعب معرفة الدافع الذي يحرك جناح سانتورم داخل الحزب، وبالذات كلامه عن أن الدراسة في الكليات تضعف الإيمان، وهو كلام غير صحيح بالمرة كما هو واضح. إلا أنه على صواب في رأيه بأن نظام التعليم العالي لدينا بيئة غير مرحبة بالآيديولوجية المحافظة السائدة حاليا، وهذا لا ينطبق على أساتذة الفنون المتحررة فحسب؛ بل موجود بين المتخصصين في مجال العلوم؛ فعدد المنتمين إلى الفريق الديمقراطي يفوق عدد من ينتمون إلى الفريق الجمهوري بنسبة تسعة إلى واحد.

وأنا أخمن أن سانتورم سيعتبر ذلك دليلا على وجود مؤامرة ليبرالية، بينما قد يقول غيره إن المتخصصين في العلوم يجدون صعوبة في دعم حزب أصبح إنكار التغيرات المناخية فيه بمثابة محدد للهوية السياسية، وإلى هكذا ستصير نظرية النشوء والارتقاء.

ولكن ماذا عن أشخاص مثل رومني؟ أليست لهم مصلحة في نجاح الاقتصاد الأميركي مستقبلا، الذي يتعرض لخطر شن حرب صليبية على التعليم؟ ربما ليس بقدر ما تظن.

على كل حال، فقد شهدت الثلاثون سنة الماضية انفصالا كبيرا بين زيادات ضخمة في دخل الطبقة العليا وأوجه معاناة كثيرة في حياة العمال العاديين. ويمكنك أن تقول إن المصالح الشخصية للنخبة الأميركية تقتضي العمل على استمرار ذلك الانفصال، بما يعني العمل بأي ثمن على استمرار محدودية الضرائب المفروضة على الدخول المرتفعة، بغض النظر عن عواقب ذلك من حيث ضعف البنية التحتية وسوء مستوى تدريب قوة العمل.

وإذا كان خفض تمويل التعليم العام يغلق باب الحراك الاجتماعي أمام كثير من أبناء الطبقات ذات القدرة المادية الأقل، إذن فهل صدقت حقا ذلك الكلام عن إيجاد تكافؤ في الفرص؟

إذن، فمهما تسمع من الجمهوريين من أنهم حزب القيم التقليدية، ضع في ذهنك أنهم في الحقيقة انفصلوا جذريا عن التراث الأميركي بتقدير أهمية وقيمة التعليم، وأنهم قاموا بهذا الانفصال لأنهم يرون أن ما لا تعرفه لا يمكن أن يسبب لهم ضررا.