مصارحة حول مأساة بابا عمرو

TT

في الاستراتيجية، الحروب النظامية تدور بين جيوش شبه متكافئة، في القوة البشرية. العتاد. التموين. ثم تلعب عبقرية القيادة في التكتيك. أي في اختيار الموقع. ثم في المناورة، الدور الأكبر في حسم المعركة أو الحرب.

في الحرب غير المتكافئة، يلجأ الجانب الأضعف، وغالبا هو الجانب الأخف والأسرع في الحركة، إلى استراتيجية «الكر والفر». وخز الإبر. المفاجأة. الالتفاف. الضرب هنا. وهناك. باختصار، يلجأ إلى «حرب الاستنزاف».

لم تنقلب حروب التحرير في القرن العشرين، حروبا نظامية، إلا عندما استنزف الأضعف الأقوى. فبات قادرا على مواجهته وجها لوجه، وإلحاق الهزيمة به. نزل فيدل كاسترو من الجبال. زحف إلى هافانا عندما شعر أنه بات قويا. وكفؤا للجيش النظامي. وهكذا فعل الفيتناميون بالفرنسيين. ثم بالأميركيين. وها هي طالبان لا تتموقع في مدينة. أو إقليم. تظل شبحا أعيا مائة ألف جندي أميركي، وقدر ضعف عددهم من قوات حليفة ونظامية.

في خط صحراوي شاقولي يمتد من وسط سوريا إلى دمشق جنوبا، استنزف خالد بن الوليد جيش الإمبراطورية البيزنطية، بقواته الخفيفة والقليلة. وعندما أوهى الاستنزاف معنويات القوى النظامية، انقض خالد على دمشق. ففتحها عنوة ومواجهة. في التاريخ، كانت الأسوار، بقلاعها وحصونها، خط الدفاع عن المدن. الحروب الحديثة شقاء مروع وموت مليوني للمدنيين. فقد تقدمت لتدور داخل المدن. حسم ستالين الحرب مع ألمانيا في موسكو. جاع المدنيون المحاصرون. ثم ماتوا تحت أنقاض القصف الهائل المتبادل.

كنت في بيروت خلال سني الحرب الأهلية الثلاث الأولى. بيروت بعماراتها الشاهقة. وزواريبها الضيقة. المتعرجة، مدينة مثالية للدفاع. لا للهجوم. باستثناء عبقرية تسلل «القوات اللبنانية» عبر أنفاق المجاري، إلى فندق «هوليداي إن» الضخم، في المنطقة الإسلامية، بقيت الحرب أشبه بـ«دق» في لعبة «الطاولة»: شيش. بيش. قنبلة هاون من هنا. وقنبلة من هناك.

وحتى شارون، لم يتمكن من دخول بيروت الغربية بقواته (1982)، إلا تسللا من بيروت الشرقية. فاستقبله عرفات، مختفيا في أنفاق أرض يستحيل اقتحامها. ولم ينقذ شارون من حرب الاستنزاف سوى الوساطة الأميركية التي أقنعت عرفات بالانتقال من تحت الأرض إلى تونس. لكن بعدما قتل عشرون ألف إنسان فلسطيني. لبناني. سوري. من كل ما قدمت وعرضت، أضع القارئ، ولا سيما الأشقاء الخليجيين، أمام حقيقة مؤلمة من حقائق مجزرة بابا عمرو. نعم، كانت هناك بطولة في صمود المقاتلين ثلاثة أسابيع في الحي. لكن كانت هناك أخطاء في الاستراتيجية والتكتيك.

المدن السورية غير بيروت. المباني أقل ارتفاعا. الشوارع الحديثة أوسع. السكان أقل كثافة. وبالتالي، فهي لا تصلح مناطق «محررة»، لانعدام التكافؤ بين قوات النظام، وقوى الانتفاضة المسلحة، في العدد. العتاد. التموين.

ليس معروفا، بعد، من هو المسؤول عن الكارثة. هل هي قيادة الجيش الوطني الحر؟ أم الإخوان المسلمون؟ أم وجود انتحاريين، قيل إنهم مرتبطون بـ«القاعدة»؟! الجيش الوطني الحر ليس جيشا نظاميا، بعد، لكن الضباط الأبطال المنشقين عن الجيش النظامي يقاتلون وفق العقيدة القتالية للجيوش النظامية، أي الدخول غالبا، في مواجهة خاسرة وجها لوجه ضد قوات الأسد النظامية، كتلك المواجهة في حمص. بدلا من الاعتماد والتركيز أكثر على تكتيك الكر والفر، لاستنزاف القوات النظامية، وحفز مزيد من عشرات ألوف المجندين على الانشقاق.

لا أحمل العقيد رياض الأسعد المرابط في تركيا كل المسؤولية. فليس كل من يقاتل باسم الجيش الوطني الحر ينضوي تحت لوائه، أو يأتمر بإمرته. لكنه يبدو أنه يرتكب، في محافظة إدلب المجاورة لتركيا، الخطأ الذي ارتكب في بابا عمرو. فقواته تتموقع في مدن وقرى صغيرة نسبيا، بدلا من الانتشار على مستوى أوسع في المحافظات السورية. وها هي قوات النظام تتقدم بسرعة لمحاصرتها في مواقعها الثابتة، ولارتكاب المجازر التي ترتكبها في حمص، بعدما حسمت لصالحها معركة حي بابا عمرو.

بل أذهب إلى الاعتقاد بأن ظهور المسلحين إلى جانب تظاهرات المحتجين المدنيين السلميين، بحجة «حمايتهم»، هو أيضا خطأ استراتيجي وتكتيكي كبير. فالمسلحون عمليا يضعون عشرات ألوف المدنيين رهائن محاصرين بينهم وبين قوات النظام التي تقصفهم وتنكل بهم، بالزعم أنهم مسلحون.

والدليل على الخطأ أن المسلحين اضطروا إلى الانسحاب من بابا عمرو أمام تقدم القوات الخاصة (نخبة القوات النظامية)، تاركين ما تبقى من مدنيين (أربعة آلاف ساكن) فر بعضهم بعد انسحاب المسلحين. واحتجز شباب ورجال أسر مدنية لم يشاركوا في القتال. وتم إعدامهم بلا تحقيق. وبلا رحمة.

لم يتم بعد فرز تحليلي نوعي لمسلحي بابا عمرو. لكن لا شك أن مقاتلي الإخوان المسلمين شاركوا في المعركة. هم أيضا يرتكبون اليوم الخطأ الاستراتيجي الفادح الذي ارتكبه آباؤهم، قبل ثلاثين سنة بالضبط في حماه. فقد تخلوا آنذاك عن حرب الأشباح، ليتجمعوا في المدينة/ الضحية. فكان سهلا على قوات «سرايا الدفاع» و«القوات الخاصة» اقتحام المدينة. وهدمها فوق الإخوان وعشرات ألوف المدنيين. وتم قتل وإعدام كل ناج من الموت تحت الأنقاض.

قوى المعارضة السياسية، في الداخل والخارج صامتة عما حدث. ربما غيرة. وحماية. وخوفا على الانتفاضة التي تحولت فعلا إلى ثورة. أو ربما لا تعرف. أو تعرف. لكنها تخشى الفصائل المسلحة. وبالتالي، فهي ليست قادرة على تقديم تحقيق أو تحليل للتخطيط والتطبيق، وصولا إلى تأكيد أو نفي ما أقول. مع قبولي سلفا بنتائج تحليل موضوعي وميداني.

كسوري، كنت بحكم مهنتي كصحافي شاهدا على تاريخ أعترف بأني لم أشارك في صنعه. لكن أعرف خفاياه وملابساته. لست سياسيا. لكن غياب السياسة. وحرية الصحافة. والقانون، حال دون المصارحة والمكاشفة. المصارحة قبل الحوار هي التي تقدم صورة قريبة للحقيقة والواقع. وعليها يمكن الاستنتاج وإصدار حكم صحيح. بلا مجاملة. بلا تلفيق. لا تكفي إدانة نظام لم يعد يقاتل كدولة لها قانون. وشرف. وأخلاق. ونبل. فهو يقاتل كعيلة. وطائفة. وهو يعرف أن ما يفعله جرده من شرعيته أمام العرب والعالم. وبات محكوما عليه بالسقوط عاجلا. أو آجلا. في المقابل، وعلى المستوى ذاته، لا بد أيضا من المصارحة والمكاشفة، مع الساسة الجدد الهواة. ومع الفصائل المسلحة التي تتصدى ببطولة وشجاعة للنظام، إذا كان السوريون حقا راغبين في تجنب الأخطاء، ولو في ذروة المعركة. وإذا كانوا حقا جديرين بحرية حقيقية. وديمقراطية جديدة.

القيادتان السياسيتان السعودية والقطرية تتمتعان في سوريا بثقة وشعبية كبيرتين. وهما تساهمان، لأول مرة في التاريخ الخليجي، في تدخل مباشر. مرغوب. ومشروع، في قضية قومية، لإنقاذ مجتمع شقيق.

من هنا، أضع أمامهما ما قلت. وما كتبت، في غياب قيادة سياسية سورية محترفة وواعية. فالسعودية وقطر مؤهلتان لتفادي الخطأ باكرا. ولتقييم وتقويم العمل الميداني للقوى السياسية والمسلحة. إذا كان ما قلت صحيحا، فقد أديت واجبي كصحافي وكعربي. وإذا كنت قد بالغت، فما يغفر لي أني اجتهدت. وحذّرت سلفا.