حقوق.. وأحلام

TT

مع استمرار وكثرة وتكرار عبارة «أهمية وضرورة حماية حقوق الأقليات» في أحداث الثورة السورية الكبرى والمنطقة الآن لأكثر من سنة بلا توقف، وكذلك تكررت في دول عربية أخرى من قبل، تبدو هذه المسألة أقرب للسخرية السوداء منها إلى النصيحة المحقة والصادقة؛ فالمجتمعات العربية تعاني «الأغلبية» فيها من فقدان حقوقها وغياب لإحساسها بالعدالة والكرامة والأمان، فبالتالي المطالبة من المحروم مراعاة محروم آخر هي مسألة هزلية بامتياز.

فهذه الأنظمة التي سقطت وتتهاوى لم تكن يوما «تحترم» شعوبها ولا تحسب لهم قيمة ولا اعتبارا، وهذا الأمر ولّد لدى الشعوب إحساسا متناميا بالدونية و«قبول» الظلم ورؤية أنه جيد لأن البديل المجهول هو شر، وبات ترديد الأمثال العجيبة مثل «ارضَ بقردك أفضل من أن يأتيك الذي هو أقرد منه»، أو «الحمار الذي تعرفه أحسن من الحصان الذي لا تعرفه»، وغيرهما، وتولدت ثقافة جديدة وذهنية مختلفة يسميها المفكر الإسلامي الجزائري الراحل الكبير مالك بن نبي «القابلية للاستعمار»، وهنا المقصود هو استعمار الاستعباد والظلم والطغيان، فمع الوقت تتبلد النفسية وتتقبل القمع على أنه تهذيب وتربية، والقتل أنه تكلفة مطلوبة لأجل الهدف الأسمى، وغيرها من الأهداف المشبوهة التي تنافي القيم الدينية والأعراف والآداب والأنظمة والقوانين والحقوق بشتى أشكالها، وهذا طبعا يولد ويؤسس لمنظومة الاستبداد والطغيان كما وصفها بشكل عبقري الشيخ الحقوقي الفذ ابن حلب عبد الرحمن الكواكبي منذ أكثر من مائة عام تقريبا.

لعل الدرس الأهم والأدق والأخطر الممكن الاستفادة منه من أحداث الربيع العربي هو هشاشة وضآلة حجم الحقوق الموجودة لدى المواطن العربي في هذه البلدان ورخوة العلاقة بين الدولة والمواطن في ظل عقد اجتماعي مهترئ وصوري ورمزي في أحسن الحالات وأفضل التقدير؛ لأنها لم تكن أبدا في يوم من الأيام علاقة متكافئة وسوية وعادلة ولكنها دوما كانت علاقة سيد بعبده، علاقة منتصر بمهزوم، علاقة قاهر بمقهور، وهذه جميعا نماذج واضحة لسوء العلاقة وفداحتها واستحالة أن تستمر كما كانت مهما كانت الشعارات التي ترفع داعمة لتلك العلاقة، وتضع لها الأهداف الخيالية الجميلة والبراقة باسم الدين والقومية والعروبة والمقاومة والتحرير والمساواة والاشتراكية والحرية، لأن واقع الممارسة الفعلي يفضح ويكشف عكس ذلك تماما.

وليس هناك أبلغ من كل ذلك في ظل وجود أنظمة عربية اليوم موجودة في ظل الربيع العربي وعلاماته وأصواته الواضحة الملامح التي تنادي بالحق والكرامة والحرية وصوت الشعوب، ومع كل هذا وعلى الرغم من كل ذلك فهي تقرر الوقوف مع نظام مجرم طاغية مثل النظام السوري الأسدي الذي يقف على حصيلة أربعين سنة من القتل والدماء بحق شعبه.. إنها صورة صريحة للواقع السياسي العربي البائس، وحالة السقوط المتواصل في أوحال الظلم والديكتاتورية والمذلة والاستعباد وتأليه الفرعون المتواصل بأشكاله المستنسخة عبر الأزمان والأجيال، ولذلك الصراع من أجل حرية السوريين على الرغم من أنه يرمز لشعب واحد في مواجهة مع نظامه الأجرم، فإن حال سائر المنطقة في دعمها للثورة أو دعمها للنظام هو مرآة وترمومتر لحجم الإخلاص أو النفاق في قلوب الناس ونفوسهم وعقلياتهم.

ثورة سوريا للخلاص من نظام الأسد هي لحظة حق في زمن مليء بالنفاق. لن يتمكن العربي كمواطن من حماية أي مواطن من أقليات أخرى ومنحه الحقوق كاملة حتى يستشعر هو شخصيا قيمة ذلك الأمر.

[email protected]