مناقشة مفهوم الحرية عند محمد حامد الأحمري

TT

كنت في جمع من المعارف، ممن يستغرقهم الحديث في الشأن السياسي العام، وكان حديثهم عن المثقف الإسلامي محمد الأحمري، عرجوا فيه على لقاء ذكروا أنه قديم أجرته معه قناة «الجزيرة»، وتُليت فيه آيات الإطراء والثناء على أفكار سياسية وتحليلات تاريخية تتعلق بالحرية كان أبداها في ذلك اللقاء، ظنوا أنها جديدة وفريدة.

وكان أكثر ما لفت انتباهي افتتانهم بفكرة - حسب ما رووا - تقول إن صلة الحاكم بالمواطن في العالم العربي هي صلة «مساكنة» لا صلة «مواطنة» وعندما رووها، وصاروا يقلبون النظر فيها، انفسحت صدورهم وغلبت عليهم النشوة، يكاد الواحد منهم يميد من الطرب.

ولما كان اللقاء مع الدكتور الأحمري في قناة «الجزيرة» قد فاتتني مشاهدته، كنت أصغي لحديثهم الجذل عنه باهتمام، وحين أتوا على حديثه من كل جوانبه، علقت بالقول:

إن الأفكار والتحليلات التي نقلتموها عنه ليس فيها جدة ولا فرادة. فهي من أفكار الإسلاميين العادية والمكرورة، وتمثل الجانب الملتوي والمخاتل في خطابهم عن الحرية، وأشك أن الدكتور محمد قال بتلك الفكرة على النحو الذي تروونه، حاشاه أن يستعمل كلمة «المساكنة» في وصف علاقة الحاكم بالمواطن، ربما كان نقلكم غير دقيق، وربما أن الكلمة جاءت على لسانه من سبق القول.

فردوا: أنه قال بتلك الفكرة وأن الكلمة لم تكن من سبق القول، إذ كررها وهو يشرح فكرته، وسألوا مستغربين: لماذا تستبعد أن يقول بتلك الفكرة؟! ولماذا تنزهه عنها بـ«حاشاه»؟!

قلت: الدكتور محمد قبل أن يكون طالبا في قسم التاريخ في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ومكملا للدراسة في هذا القسم في الولايات المتحدة الأميركية ثم تحوله إلى إتمام دراسته العليا في قسم العلوم السياسية في هذا البلد وفي بريطانيا مُعرق في نسبه بالإسلاميين كما يفهم مما رواه الشيخ عائض القرني في ذكرياته عنه التي تبين لنا فيها أنه من أترابه في الصحوة. والإسلاميون إجمالا يتوخون الحشمة في ألفاظهم وعباراتهم ولا يخفى عليه أن كلمة المساكنة في المصطلح الإسلامي، تتضمن فيما تتضمن تورية جنسية.. فالمساكنة علاقة كاملة لا تكون إلا بين زوجين أو رجل وامرأة. ولا يليق أن تطلق في وصف علاقة الحاكم بالمحكوم.

قالوا: لقد أبعدت النجعة فهو يقصد بالمساكنة علاقة الجيرة، وليس صلة الزيجة.

قدر لي بعد انفضاض الجمع وذهاب كل واحد منا إلى بيته أن أشاهد المقابلة التي كانت مشاهدتها قد فاتتني.

شاهدتها على «يوتيوب» وكانت ضمن برنامج «في العمق» الذي يقدمه علي الظفيري. وكانت الحلقة التي تم استضافة محمد الأحمري فيها، هي عن الحرية في الفكر الإسلامي.

وبعد أن شاهدت الحلقة تيقنت من صدق تأكيد ذلك الجمع أنه استخدم كلمة المساكنة وأنه كان يعني بها الجيرة، وأنها لم تكن زلة أو هفوة لسان.

المحبط أن التوفيق لم يجانبه في استعمال تلك الكلمة في الفكرة السياسية التي أراد أن يعبر عنها وحسب، بل جانبه في أكثر أفكاره وتحليلاته.

مساكنة لا مواطنة

لنتعرف على فكرة المساكنة التي جعلها الأحمري نقيضا لفكرة المواطنة، بنقل ما قاله في ذلك اللقاء، بحذافيره.

يقول الأحمري: «حقيقة نحن نستخدم كلمة المواطنة ولا نعرف معناها، نحن في حالة المجتمع العربي ليس عندنا مواطنة بأي نوع، لأن المواطنة تعني المشاركة في مسؤولية الوطن في حقوقه وفي واجباته. نحن في الوطن العربي في المناطق المستبدة في حالة اسمها مساكنة يسمح الحاكم بأن نسكن في جواره. يسمح لنا بأن نعمل ولكنه يمكن أن يصادر كل حق في أي لحظة، وبالتالي هذه ليست مواطنة. ولا يجوز أن نلقي على المساكنة هذه - أي جواز أن تسكن هذا البلد أو ذاك - تسمية المواطنة، لأنه من الممكن أن يسجنك الحاكم ويأخذ مالك ويعاقبك في أي لحظة، هذه مساكنة وليست مواطنة، المواطنة تعني أن لك حقوقا وعليك واجبات، وللحاكم نفس الأمر، وهذا أمر يتم بالتبادل والمشاركة وهذا حق غائب في المجتمع العربي، وهذا يشمل الجميع».

وأقول تعليقا على كلامه:

نشأت في الغرب مع منتصف القرن الماضي ظاهرة اجتماعية، أصبحت في ستيناته ملموسة، لعوامل كثيرة، هي التعايش على طريقة الأزواج من دون عقد ديني أو مدني. وهذا التعايش لا يترتب عليه عند الانفصال أو وفاة أحد الطرفين تبعات قانونية، وكانت الأدبيات الإسلامية تطلق على تلك الظاهرة: المخادنة (المخادنة إحدى صيغ النكاح عند العرب قبل الإسلام، والخدين هو الصاحب أو الرفيق)، وحينا تطلق عليها اتخاذ الخليل والخليلات.

وفي سنوات متأخرة، تحديدا من بداية المنتصف الأخير من عقد التسعينات الميلادية أطلق اللبنانيون على الكلمة Cohahabitation (سكن مع، وهي من أصل لاتيني) التي تعبر عن تلك الظاهرة باللغتين الفرنسية والإنجليزية، مع بداية نشوئها في بلدهم على نطاق ضيق – وما زال الأمر كذلك – تعبيرا قرآنيا، هو المساكنة. المفارقة الطريفة هنا، أن اللبنانيين بمسيحييهم وعلمانييهم كانوا أدق في استعمال المصطلح الإسلامي من إسلامي، أصيل المنبت في إسلاميته، كالدكتور محمد الأحمري!

إن المساكنة - حسب المصطلح الإسلامي - التي أنزلها أو سحبها إسلامينا المثقف على صيغة العلاقة القائمة ما بين الحاكم والمحكوم في العالم العربي، لا تمنحه المعنى السلطوي التخويفي الإرهابي الذي أراده. فمن معانيها القرآنية: الاستقرار والهدوء والطمأنينة والصلة الروحية والجسدية التي ينشأ عنها المودة والرحمة واستمرار النسل.

ولا بد للمتأمل في كلامه - بمعزل عن الفهم القرآني لكلمة المساكنة وبالتركيز على معنييها اللغوي والاجتماعي العام - أن يقع في حيص بيص.. إذ لن يفهم كيف تأتى للحاكم أن يسجنك ويأخذ مالك ويعاقبك في أي لحظة، مع أن الصلة به صلة مساكنة والعلاقة به علاقة جوار!

أشير إلى هذا الأمر، لأبين قدر الاضطراب في الكلمة التي رأى فيها نقيضا لفكرة المواطنة.

لست أشك في أن الأحمري يعلم بأن ما يقابل كلمة المواطنة هو كلمة الرعية، وأن كلمة المواطنين حلت محل الرعايا، التعبير المستخدم في ما قبل العصور الحديثة، وأن المواطنة هي النقيض التاريخي للرعية لكنه تحاشى استخدام التعبير القديم لما يحمله من ظلال دينية، ونزع إلى اجتهاد في غير موضعه، بل هو خاطئ وسقيم.

خاطئ وسقيم، لأن المواطنة لا تتناقض والمساكنة، فالوطن في «صحاح الجوهري»: المنزل تقيم به. وفي «القاموس المحيط» للفيروزآبادي: منزل الإقامة. وفي «لسان العرب»: المنزل تقيم به، وهو موطن الإنسان ومحله، وقد خفّفه رؤبة في قوله: أوطنت وطنا لم يكن من وطني لوم لم تكن عاملها لم أسكن بها، ولم أرجن بها في الرجن. وفي «المنجد في اللغة والأعلام»، وهو معجم ألف في العقد الأول من القرن الماضي: منزل إقامة الإنسان. ولد فيه أو لم يولد. وإضافة الجملة الأخيرة: «ولد فيه أو لم يولد» لم ترد في معاجم اللغة العربية القديمة. وهذه الإضافة مستخلصة من رجز رؤبة الذي قال فيه ابن منظور: «وقد خفّفه»، ومن قول ابن بري الذي أورده ابن منظور في أن الذي في شعر رؤبة:

كيما ترى أهل العراق أنني

أوطنت أرضا لم تكن من وطني

ومستخلص من بعض معاني اشتقاقات وطن في المعاجم اللغوية العربية، ومن أن هذه المعاجم لا تنص في معنى وطن على مكان الولادة، فهي كلها تذكر منزل ومكان ومقر الإقامة.

هذه الإضافة المستخلصة جاءت بتأثير من الثقافة الغربية في عصر النهضة العربي الذي ألجئ إلى وضع اشتقاقات لغوية عربية جديدة تقابل كلمات في اللغة الفرنسية والإنجليزية، كالوطنية والجنسية وغيرها من كلمات أخرى.

المواطنة: هذا الاشتقاق مثله مثل اشتقاق الوطنية، لا يرد في المعاجم اللغوية العربية القديمة، فهو من المولد الجديد. وفي «المنجد» المواطن هو: الذي نشأ معك في وطن واحد أو الذي يقيم معك فيه.

وهذا التعريف - كما نلاحظ - للمواطنة وللوطن لا يحمل معنى الدلالة الاصطلاحية للمواطنة وللوطن التي توصل إليها الغرب قبل قرون من تأليف هذا المعجم، مع أن أصحاب هذا المعجم مطلعون على الثقافة الغربية، لا سيما الثقافة الفرنسية.

أما المساكنة، وهي اشتقاق جديد لم يرد في معاجم اللغة العربية القديمة فمصدرها سَاكَنَ (بفتح السين والكاف والنون) وجذرها سكن. في «المنجد»: ساكنه في دار واحدة: سكنها وإياه. تساكنوا في الدار: سكنوها معا. سكن – سكنا وسكنى الدارين في الدار: أقام فيها.

وجاء في «لسان العرب»: سكن: السكون ضد الحركة. سكن الشيء يسكن سكونا: إذا ذهبت حركته. السكن: كل ما سكنت إليه واطمأننت به من أهل وغيره. وربما قالت العرب: السكن لما يسكن إليه، ومنه قوله تعالى: «وجعل الليل سكنا»، والسكن: المرأة لأنها يسكن إليها.

ومن مرادفات كلمة سكن: أقام، قطن، استقر، توطن، استوطن.

والسكان جمع لساكن، وهي اشتقاق عربي قديم، جذرها سكن تستخدم في التعبير العربي المعاصر، مرادفا لكلمة المواطنين.

مما تقدم يتبين أن كلمة الموطن لها ذات الدلالات اللغوية لكلمة المسكن، فالمواطنة لا تتناقض لغة مع كلمة المساكنة، وفي اللغات الأجنبية المواطنة لا تتناقض لا لغة ولا اصطلاحا مع كلمة المساكنة.

والحاكم الذي يمكن «أن يسجنك ويأخذ مالك ويعاقبك في أي لحظة» لا يجعل من البلد الذي يحكمه لا موطنا ولا مسكنا، بل هو ينسف معنيي «الوطن» و«المسكن». فالوطن هو المسكن. أليس «المسكن» هو، بحسب جمع ما بين ما قاله صاحب «اللسان» وصاحب «المصباح المنير»: «ما سكنت إليه واطمأننت به من مال وأهل وغيره»؟ وكذلك هو الوطن.

أوهام لغوية واصطلاحية

لا بد أن نلتمس للأحمري العذر في اجتهاده الخاطئ والسقيم في وضع المساكنة نقيضا للمواطنة بأسباب، هي كالآتي:

- نسي أن Cohahabition هي التعايش أو المعاشرة، وبخاصة على طريقة الأزواج.

- جهل أن التساكن أو التعايش أو المساكنة بعد ذلك صارت اصطلاحا في الاجتماع السياسي الثقافي تطلق على مجتمعات متعددة دينيا أو مذهبيا أو قوميا تعيش في مكان واحد، ترفض الاندماج والانصهار، وترفض المواطنة بمعناها العلماني الكامل. ولبنان هو المثال البارز للمجتمعات المختلفة دينيا ومذهبيا المتساكنة والمتعايشة على مستوى التاريخ. ومثاله البارز - على مستوى الحاضر - في التساكن والتعايش الطائفي ورفض بناء الدولة والمجتمع على أساس علماني شامل.

- جهل أن المساكنة أو المعاشرة صارت منذ عام 1986م اصطلاحا سياسيا وقد سكَّ هذا الاصطلاح في هذا العام عندما اضطر فرانسوا ميتران لتعيين جاك شيراك رئيس الوزراء (1986 - 1988)، وهما من حزبين متعارضين؛ الأول اشتراكي والآخر يميني. وتمثل المساكنة عمليا أيضا مساكنة ميتران مع لادوارد بالادور (1993 - 1995) ومساكنة شيراك للاشتراكي ليونيل جوسبان. والمساكنة في السياسة تحصل في النظام شبه الرئاسي. وفي الأغلب أن المساكنة أو المعاشرة، كما في التواريخ المبينة مدتها قصيرة.

- جهل أن المساكنة كلمة مستخدمة في القانون المصري، فيما يتعلق بعقود الإيجار.

- جهل أن الفقهاء المعاصرين لديهم اصطلاح اسمه: مساكنة المعتدة ولهم كلام في تعريفه وحكمه!

الردة والذمية

يسترعي الانتباه، أن إجابة الدكتور الأحمري التي أوردناها بنصها، كانت إجابة عن سؤال غير مطروح عليه أصلا من قبل محاوره علي الظفيري، وأنها جاءت للتهرب من الإجابة عن السؤال الأصلي، كما أنها جاءت ضمن سلسلة من الإجابات التهربية التي قدر أنها تحقق له الالتفاف على أسئلة موجهة له بصدد قضية هو يراها مركزية، ألا وهي قضية الحرية في الفكر الإسلامي.

التهرب بدأ منذ أن سأله الظفيري عن حرية الردة في البلاد الإسلامية وحرية غير المسلمين فيها.

السؤال كان من الواضح أن المقصود به الوضع المعاصر، ومن الجملة الأخيرة فيه كان من الواضح أيضا أنه يطلب رأيه هو بصفته مثقفا إسلاميا متعلقا بقضية الحرية، يقدمها على ما سواها من قضايا في الفكر الإسلامي.

الأحمري في إجابته عن هذا السؤال تجاهل الجزء الأول فيه، ويمم شطر الجزء الثاني، ليقول معلومة ابتدائية يعرفها حق المعرفة المسلم وغير المسلم، مفادها أن «قضية حرية الدين في المجتمع الإسلامي مضمونة..».

السؤال لم يكن عن ما هو موقف الإسلام حينما جاء أو الرسول حينما بعث من واقع التعددية الدينية، ولا هو عن حدود التسامح الديني مع المرأة اليهودية أو المسيحية المتزوجة من مسلم في الفقه الإسلامي، ومع هذا فإن إجابته انصرفت إلى ملامسة شيء سطحي من هوامش هذه التخوم التاريخية والفقهية.

الظفيري بعد استطراد يسير معه، تنبه إلى أنه لم يجب عن سؤاله، وأنه خاض في شؤون أخرى، فطلب رأيه في حد الردة.

استمر الحال بينهما طويلا، ما بين كر من السائل وفرّ من المجيب ولم يسفر الكر المتواصل عن الظفر بإجابة عن موقف المجيب من حد الردة ومن إجابة عن موقع غير المسلمين في الدولة التي تستند في بنائها إلى الديمقراطية، التي يلح المجيب على المطالبة بها، إلى أن أتت تلك الإفادة التي ناقشناها أعلاه، من حيث صحة انطباقها في وصف علاقة الحاكم بالمحكوم، فتوقف الكر وهدأ الفر، وانعطف النقاش إلى مجرى واسع، ليس فيه تحرّج أو مراوغة.

حصيلة الكر من الإجابات في القضيتين المشار إليهما، هي: أن الردة، ردة الفرد وليس الجماعة فيها بحث، وأنها عند الفقهاء مجال نقاش، منهم من يرى الحد ومنهم من لا يراه، وأن النقاش فيها موجود منذ القديم.

إلى أي الرأيين يميل، أخبرنا أنه ليس مفتيا.

أعطى مثلا لقضية مبدأ حرية المجتمع في قضية الردة وفي قضية مخالفة الحاكم بذكر أن «أحد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم لم ير البيعة لأبي بكر وبقي إنسانا مكفولا له الحرية والكرامة والاعتراض والذهاب والمجيء».

الصحابي المشار إليه هنا، سعد بن عبادة، وقد تعمد الخلط بين قضيتين مختلفتين تماما، هما: حرية الردة وحرية رفض البيعة للخليفة، فضرب مثالا للثانية، وأغفل إعطاء مثال للأولى.

أما قضية «المواطنة الذمية أو مواطنة الدرجة الثانية لغير المسلمين»، بحسب ما ورد في سؤال الظفيري، فاكتفى فيها بالقول إنها «تحتاج إلى نقاش».

هذه الإجابات المتحرجة المنقوصة المراوغة لا تتسق وحديثه في مبتدأ اللقاء غير المتردد وغير الهياب عن أهمية الحرية وضرورتها لنا في العالم العربي. ولا تتسق مع ما نعاه على ذلك الأستاذ الجامعي الذي كان يرغب في قراءة فاكس مرسل من معارضة عربية، لكنه خائف أن تبقى بصماته على الورق، فكان يأخذ منديلا ويرفع الورقة فاصلا بينه وبين الورقة الأخرى. هذا الأستاذ الجامعي المسكون بالخوف إلى هذه الدرجة نعى عليه هذا الأمر ووجه إليه وإلينا أسئلة تقريعية، فقال: أي أمانة علمية أي موقف فكري أي موقف ثقافي يمكن أن يؤديه؟ أي مجتمع يعيش هذه الحالة؟!

ولا تتسق مع ما حدده لدور الحرية بالنسبة للإنسان العربي، وهي: أن يستطيع أن يتحدث وينتقد أو يقول ملاحظاته أو يصلح أي شيء.

كان من المفترض به أن يقدم إجابة واضحة عن هاتين القضيتين اللتين طرحهما عليه سائله ولا يكتفي بالقول بالنسبة للأولى إنها «مجال نقاش»، والأخرى بأنها «تحتاج إلى نقاش»؟

مخاتلة وحيدة

كان من المفترض به أن يفعل ذلك لأنه داعية سياسي إلى دولة إسلامية جديدة مفعمة بالحرية ومشبعة بالديمقراطية.

لن أتشدد مثله وأسأل بحدة: أي أمانة علمية أي موقف فكري أي موقف ثقافي يمكن أن يؤديه؟ لكن سأسأله بهدوء:

لماذا اقتصرت جمل من مثل: «فيها بحث» و«مجال نقاش» و«تحتاج إلى نقاش» و«لست مفتيا» و«أنا لا أفتي للناس، وبالتالي لا أفتي لنفسي» التي فيها قدر من التحرز العلمي والورع الديني على تلك القضيتين، ولِمَ لم يشمل بها قضايا أخرى مع أنها هي محل بحث ومجال نقاش وليس مجالها مجال فتيا؟

إن إجاباته المخاتلة على هاتين القضيتين تبين أن أولوية الحرية عند الفكر الإسلامي لم تصمد أمام هاتين القضيتين. فما دام أن القضية الأولى«فيها بحث وأنها عند الفقهاء مجال نقاش» لماذا لم يقل إنه لا يرى قتل المرتد؟ وله فسحة في ذلك، فلقد قال بهذا مشايخ وفقهاء ومثقفون إسلاميون منذ ما يزيد على القرن. وفي القضية الثانية: وضع غير المسلم في الدولة الإسلامية، لماذا لم يفصح أن الذمية كان لها موجباتها الموضوعية في فترة إسلامية خلت، وأنه لا يرى استئنافها مجددا، وأن غير المسلم هو مواطن، مواطنة كاملة؟ وله فسحة أيضا في ذلك بأن ثمة إسلاميين ذهبوا إلى هذا الرأي. لا شك أن هؤلاء - وبعضهم أسماء عتيقة - الذين تتوفر فيهم فسحة ألصق بمفهوم الحرية من صاحبنا الذي آمن بهذا المفهوم - كما يقول أوائلنا - بآخره. كما أنه دون ما هو حاصل في كثير من الدول العربية الإسلامية بكثرة، فهي لا تقتل المرتد، ولا المغير لدينه الإسلامي، ومن فيها من غير المسلمين هم مواطنون مواطنة كاملة. وهو دون - بمقدار كبير - ما تضمنه «خطي شريف كلخانة 1839» و«خطي شريف همايون 1856» وهما أشهر مراسيم الإصلاح الدستوري في الدولة العثمانية. لذا فإني أجزم بأن غير المسلمين في هذه الدول يرهبون دولة الأحمري الإسلامية، الذي حينما سأله الظفيري عن موقعهم فيها من حيث المساواة مع المسلمين: أجاب بعد تلكؤ: إنها تحتاج إلى نقاش!

من الواضح أن للحرية عنده مجالا محددا، وأن إلحاحه عليها في السنوات المتأخرة جاء لغرض معين وهو ما سنتطرق إليه في موضع آخر.

* غدا: الأحمري وطاعة ولي الأمر وحق الملك الإلهي المقدس