اللهم لا تلبننها

TT

كانت أندريه شديد إحدى شاعرات لبنان المحترمات. عاشت عمرها المديد، صبية وزوجة وجدة، في باريس. ولم تكن تعود إلى بيروت إلا من أجل تفقُّد حجارتها وعطرها والأصدقاء. وآخر مرة كانت الحرب الأهلية قد بدأت تتمدد. هذا بعض ما كتبت: «دائرة شريرة أحاطت بالمدينة تدريجيا. امتلأت الجدران بكتابات الحوائط. ازداد الكلام حول المزيد من القتل والمزيد من الخطف. بدأت الأسلحة من جميع الأحجام في الظهور. أسلحة حرب. دبابات وسيارات جيب ومدافع نبتت من تحت الأرض. أطلقت بعض القذائف. صعد الأطفال إلى الطوابق العليا لمشاهدة نار الرصاص. بدا الأمر مثل عرض مفرقعات، فلم يكن الخوف قد أثبت حضوره بعد».

يكمل المشهد فيليب مانسل، في كتابه «المشرق»: «خطف وقتل ومجازر لم يحاول أحد إيقافها. اتفاقات لوقف النار لم يرد أحد التقيد بها، أصبحت كلها جزءا من الحياة اليومية. محطات الإذاعة صارت تحذر مستمعيها من أماكن القناصة بدل نقاط الازدحام. السيارات أصبحت أفخاخا قاتلة مستعدة للانفجار. المباني تحولت إلى مراكز عسكرية. لا أحد يعرف أين سينبت الحاجز الثاني المصنوع من أكياس الرمل والعربات. صديق الصباح قد يكون جلاد المساء. الجزء الوحيد الذي بقي من الحياة الاجتماعية هو زيارات العزاء. حتى خارج البرلمان كانت الجثث ترمى مثل الزجاجات الفارغة. وقد أصبح هذا المشهد مألوفا، حتى إن اللبنانيين تحولوا إلى نباتيين. وما كان يعرف بـ(المعجزة اللبنانية) أصبح (الكابوس اللبناني)».

بلد الفازعين والهاربين صار بلد المنفيين. كنت من أوائل الذين تركوا بيروت إلى أول مكان آخر. وتركت خلفي أحد أعلى الرواتب في الصحافة العربية يومها، مفضلا المجهول الصعب على مناظر الأحياء والشوارع: يافعون يحملون رشاشات في أوزانهم ويبحثون عمن يلقون عليه النار. تركت رسالة استقالة لناشر «الأسبوع العربي» وقرائها، بأنني لا أريد أن أكون جزءا من هذا الانحطاط البشري.

تبدو المشاهد الخارجة من سوريا مثل مشاهد حرب لبنان، التي لعبت فيها دمشق الدور الرئيسي، لكن في النهاية اللبنانيون هم الذين لعبوا الدور الأول والأسوأ. وهم الذين كانوا مسؤولين عن الخيانات وصفقات الدماء وبيع الضمائر، خصوصا بيع الكرامات، من أجل حفنة من المال أو من النفوذ.

نتمنى لسوريا ألا تنزلق إلى المزيد من المشاهد اللبنانية. كيف؟ لا أدري. كل ما أستطيعه هو أن أتمنى. ولم يعد في مقدوري مشاهدة الأخبار؛ فأنا أكتفي بسماعها. وسماعها أيضا ليس هينا، لكنه ربما أقل هولا. ولا أعرف أين يتابع السوريون أخبار أهلهم وكيف، أو ما إذا كانوا يتحملون صور الأطفال المغمسين بالدماء. وأتمنى، ليس عندي قوة أخرى سوى التمني، اللهم أبعد شبح العذاب عن سوريا.