أحبوه.. ولم يخافوه

TT

عندما توفي الرئيس التشيكي السابق، فاكلاف هافل، في 18 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تعطلت، بعد ساعات، حركة الهاتف الجوال. لم يبقَ مواطن إلا وأبلغ عزاءه إلى صديقه أو ابنه أو زوجته. وعلى نحو عفوي تدافع الناس مع باقات الزهر إلى الساحات التاريخية في براغ، يودعون الرجل البسيط والمتواضع الذي كان أول رئيس للبلاد بعد انهيار الشيوعية.

عاش حياته حذرا في كل شيء إلا في النضال من أجل شعبه. خاف أن يأتي أي خطوة خاطئة تزعج الناس وتعكر الدولة. وكتب في مذكراته: «لقد آمنت طوال حياتي، بكل بساطة، أن ما يعمل لا يمكن العودة عنه أبدا، وأن كل شيء يبقى إلى الأبد. باختصار: الوجود له ذاكرة. وبالتالي فإن حياتي الضعيفة، كطفل برجوازي، كمساعد عامل في مختبر، كجندي، كرئيس، كمتقاعد، كظاهرة عامة، كمنعزل، كبطل مزعوم، ولكن سرا كومة من الأعصاب – إن حياتي هذه سوف تبقى هنا إلى الأبد. ربما ليس هنا ولكن في مكان ما. ولكن ليس في مكان آخر، بل في مكان ما هنا».

كسجين، ومتقاعد، ومنعزل.. الرجل الذي لعب دورا أساسيا في «ربيع براغ» وأسقط الشيوعية، لا يسمي نفسه في أي مكان من مذكراته «قائدكم»، أو الزعيم، أو الذي أتى للشعب بالحرية وأقام في البلد البائس، منذ عقود، دولة الكفاية والرخاء؛ لذلك انهارت حركة الاتصالات في تشيكيا يوم غاب.

في اليوم التالي جاءوا يودعونه بمئات الآلاف، يمرون عند نعشه بصمت وحزن، الأمهات تمسك بأيدي أطفالهن لكي يلقوا النظرة الأخيرة على الكاتب والسجين والرئيس الذي أغلق سجون تشيكيا وملأها بالحدائق والورود والأمل. ولكن قبل كل شيء، ملأها تواضعا وبساطة؛ لذلك جاء ممثلون من 42 دولة يشاركون التشيكيين في وداعه.

كانت صورته في الخارج أكبر من حجم تشيكيا.. وحده من بين زعماء أوروبا الشرقية اتخذ هذا الحجم بعد سقوط الشيوعية. لم يكن المهم أنه حرر الناس، بل أنه، هو، كان حرا. الحرية بمعنى التواضع والمسامحة ومعرفة البقاء ضمن حيز الضعف البشري وعطوبته. فبعد الحرب العالمية الثانية طردت براغ 3 ملايين ألماني تشيكي انتقاما من غزو هتلر للدولة المستضعفة. ولما صار هافل رئيسا اعترض على ذلك باعتباره عملا غير إنساني، وقال إن أقل ما يمكن أن تعوض به تشيكيا هو منح الجنسية لهؤلاء. وعندما أيد الاحتلال الأميركي للعراق انتقده مثقفو أوروبا، فقال: «على الأقل انتهت ديكتاتورية صدام حسين».

«متقاعد»، «منعزل»، أحبه الناس ولم يخافوه، ألقوا عليه التحية ببساطة، حيا وميتا، وأحبهم وأحب بلده «طوال حياتي الضعيفة». وليس كقائد ملهم يطلق النار على الجرذان ويرش الجراثيم. خرج بلده إليه وليس عليه. ولم يعز الناس أهله أو الدولة بل تبادلوا العزاء فيما بينهم. انهارت حركة الهاتف الجوال وهم يأسفون لغياب رجل أحبوه دوما ولم يخافوه يوما.