شنودة.. رحيل رجل حكيم

TT

حزنت حزنا شديدا لوفاة البابا شنودة الثالث، لأن مصر والعالم العربي فقدوا بوفاته أحد رجال الدين والدنيا الذين يؤمنون بالتسامح والانفتاح والعيش المشترك. أتاحت لي ظروف عملي أن أعرف الرجل منذ السبعينات، كان لقائي الأول معه عام 1975 بعد 4 سنوات من توليه مقعد البابوية للكنيسة القبطية في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 1971. كان انطباعي الأول عن الرجل أنه مصري، غير طائفي، منفتح على العالم، قارئ، مثقف.

حصل نظير جيد روفائيل - وهذا اسمه المدني قبل التحاقه بالكنيسة - على بكالوريوس الآداب من جامعة القاهرة عام 1949 بتقدير امتياز. وكان تخصصه في التاريخ الفرعوني والإسلامي الحديث. وعند دراسته علم اللاهوت ودخوله كراهب في سلك الكنيسة في الفترة من 1956 إلى عام 1962، كانت تلك الفترة التي تعمقت فيها دراسته للديانات الأخرى والاطلاع على الفلسفة وتاريخها.

وأتيح لي أن أسجل مع البابا شنودة عدة حلقات من مشواره الشخصي والمهني والسياسي، خرجت في 16 ساعة تلفزيونية وتحولت إلى كتاب.

في تلك الفترة رأيت الرجل عن قرب، خاصة أن التسجيل كان يتم في دير «وادي النطرون» في صحراء مصر، وهو مكان منعزل متقشف للغاية يعشقه البابا لأنه يستطيع فيه أن يمارس «الزهد والتأمل بعمق». هذا الاقتراب المحدود جعلني أشعر بصدق ونزاهة وسماحة الرجل الذي كان يضع مصريته قبل طائفيته، ويضع إنسانيته قبل أي فكرة أو رؤية سياسية أو دينية.

عاصر البابا عدة مواقف صعبة في فترة ولايته التي استمرت 41 عاما، أهمها الفتنة الطائفية قبيل حرب أكتوبر (تشرين الأول)، والصراع مع السادات في سبتمبر (أيلول) 1981 والقرار بخلعه من منصبه، ثم بعض التفجيرات الفردية في صعيد مصر ومدينة الإسكندرية معبرة عن حالة الاحتقان الطائفي في البلاد. وفي عهد شنودة أيضا ظهرت أزمة ما يعرف بأقباط المهجر الذين ثاروا على تقاعس الدولة في إعطاء الأقباط حقوقهم المدنية كاملة غير منقوصة، مما دعاه إلى تعيين 17 من الأساقفة الكبار في دول المهجر لربط الكنيسة الأم بالكنائس الأخرى.

أصعب ليلة في حياة شنودة ليست بالتأكيد ليلة عزله من الرئيس الراحل أنور السادات، لكنها صدامات «ماسبيرو» بين قوات الجيش ومظاهرة للأقباط أمام مبنى التلفزيون الحكومي. في تلك الليلة كان الاختبار الأكبر لمدى قوة الوحدة الوطنية المصرية، ومدى قدرة ضبط النفس عند البابا شنودة، الذي كان يستطيع ببيان ناري أن يشعل مصر كلها ويفتح أتون الحرب الأهلية الطائفية.

بابا الكنيسة القبطية المقبل ليس منصبا دينيا أو بروتوكوليا، لكنه ذلك الرجل الذي يستأمن على سلامة شعب مصر وأقباطهم.

يأتي البابا مع نظام جديد، ودستور جديد، وبرلمان جديد، وحكومة جديدة.. بطريرك جديد، في ظل قواعد لعبة لم يتم صياغتها بعد، لذلك يصبح هذا المنصب اليوم ذا أهمية قصوى للغاية.