ماذا عن الحالة الكردية في سوريا؟

TT

كان الأكراد أول من انتفض في سوريا، وذلك في عام 2004، إثر أحداث شغب تلت مباراة كرة قدم، وتعاملت معهم الدولة بعنف شديد، تكرر بعد ذلك مرات عدة، ولم تكن انتفاضتهم تلك مجرد رفض لحالة مستجدة من القمع ضدهم، فهم عانوا على مدار عقود من إجحاف وظلم شديدين أسهمت فيهما السلطة مع بعض المؤيدين لها، وكانت ذروة هذا الظلم الإحصاء الاستثنائي لعام 1962، الذي حرم عشرات الآلاف من الأكراد من الجنسية السورية وأهمل جزءا كبيرا منهم بقوا طيلة نصف قرن، من دون هوية وطنية حتى بلغ عددهم 300 ألف مكتوم القيد، وكذلك التغييرات الديموغرافية التي تمت في السبعينات، أو ما يسمى بالحزام العربي، التي بموجبها تم الاستيلاء على أراضيهم من خلال بناء مستوطنات لسكان منطقة (غمر الفرات)، تبعها تضييق على الأكراد في الوظائف والامتيازات، هذه السياسة الممنهجة، التي وصلت إلى حد تغيير أسماء القرى وتجريم الحديث باللغة الكردية في أي مؤسسة رسمية.

الحياة الحزبية الكردية ظهرت في الجزيرة في وقت سابق على هيمنة البعث، وكانت لها هوية قومية وإنسانية واضحة، لكنها اضمحلت مع مصادرة حزب البعث للحياة السياسية، واتباعه سياسة تمييزية ضد كل تعبير عن الحس القومي الكردي.

عندما انتفض الأكراد، لم يبادر أحد من أشقائهم السوريين إلى مؤازرتهم، وهنا قد نلتمس لهم العذر لما كانت عليه القبضة الأمنية من قسوة وتجبر، لكن عندما انتفضت درعا، كان لانتفاضتها صدى مبكر في شوارع القامشلي وعامودا والحسكة وتاليا في الدرباسية وديريك وكوباني، وكانت مرشحة للتوسع أكثر من غيرها لولا بعض الإشارات الخاطئة التي أظهرتها بعض أطياف المعارضة، واستثمرتها الأحزاب في لجم الحماس تجاه الثورة، وهي إشارات لا تدل إلا على سذاجة سياسية وتاريخية في آن واحد مثل الإصرار على صيغة «الجمهورية العربية السورية» بدلا من «الجمهورية السورية»، ومع أن الأمر يبدو هامشيا، فإن الخبرة التاريخية للأكراد مع الطروحات القومية تسوغ حساسيتهم تجاه أي صيغة قومية ملزمة، وكذلك حساسيتهم تجاه الإسلام «القومي» الذي ما زال مسكونا بحالة قريشية استعجامية، تنظر باستخفاف إلى الحقوق السياسية والثقافية لغير العرب.

واستطاعت السلطة أيضا اللعب بولاءات ونشاطات بعض الأحزاب الكردية، التي تناسلت بشكل عجيب، مع أن بعضها لا يتجاوز عدد أعضائها أصابع اليد الواحدة، فانشغلت بحسب موقفها من النظام بأمور أخرى، فالمعارضة منها انشغلت بأجندة خاصة بعيدا عن بقية أطياف المعارضة السورية، والمخترقة منها عملت على إثارة الشك بالمعارضة عامة ومحاولة تزيين الوعود الإصلاحية، وهذا الأمر نتج عنه بطء في تصعيد الحركة الاحتجاجية ضد النظام.

يدرك الأكراد أن الجزر المقدم لهم أوان الأزمة ما هو إلا عصا غليظة عندما تنتهي الأزمة ويتفرغ النظام لهم، وخاصة في واقع إثني وديني شديد التعقيد، مثل منطقة الجزيرة السورية، حيث هناك مجموعات سكانية كبيرة ومؤثرة متحالفة مع النظام أو على الأقل تفضل بقاءه، خشية على مكتسبات هزيلة، أو أوضاع أوجدها النظام وتخشى أن تتغير بعد سقوطه، ولعل أكثر ما يدفع نحو هذه الشرذمة القيادات العشائرية والقبلية والدينية، التي ارتبطت لفترة طويلة مع النظام وكانت على الدوام تستمد وجودها من رضاه المذل.

الأجندة الكردية (الحزبية والثقافية) تتراوح بين حدود سياسية لجماعات موالية تخدم النظام، وهي مع نسبتها القليلة مؤثرة بما تتمتع به من قدرة على ممارسة العنف في ظل صمت ودعم السلطة، وبين أمنيات قومية وثقافية تتمنى التحرر من الهيمنة والظلم التاريخيين، لكن هذه الأجندة تبقى رهينة مواقف انفعالية ومرتجلة، وغالبا لا تقرأ الواقع والوقائع قراءة صحيحة، ولا ترسم خططا حكيمة من أجل واقع أفضل للأكراد، ولعل هذا ما اعتدناه تاريخيا من القيادات الكردية التي كانت تتصدر الأحزاب التي قلما أفادت المواطن الكردي المسحوق، فقد كانت مشغولة بخدمة الكبار فيها ومن يرتبطون بهم اجتماعيا، فمعظم الأحزاب الاشتراكية مثلا كانت إلى حد كبير في خدمة الطبقة الأرستقراطية أكثر من اهتمامها بالفلاحين والكادحين.

ما أقرأه اليوم في المشهد السياسي الثقافي والفكري الكردي، وخاصة من خلال مجالس ومجموعات مستجدة، أن هناك أجندات حديثة تنشأ وتتبلور في ظل تطورات الأحداث على الساحة السورية وتفاعلاتها على الساحة الدولية، وبات معظمها ينطلق من أجندة إقليمية وليست سورية وطنية، في ظل أمنية بتحقيق وضع مقارب للإقليم الكردي في العراق بداية، وبما يتيح الوحدة والاندماج مع باقي الأجزاء الكردية المتناثرة بين دول المنطقة في مرحلة تالية. لا شك أن من حق الأكراد أن يكون لهم كيان مستقل أسوة بغيرهم، ولكن أتلمس في هذه الأجندة خطأين فادحين: خطأ تكتيكي، وخطأ استراتيجي، فهو من جهة خطأ تكتيكي لأنه يشرذم الكتلة الموحدة المطلوبة لمعارضة السلطة في دمشق، ويحول دون تضافر الجهود نحو إسقاط النظام الذي استبد بالسوريين على اختلاف أطيافهم ومشاربهم وأعراقهم، مما يؤخر سقوطه، وربما يمنحه طوق النجاة. فالتخلص من النظام القائم هو بداية أي حلم، إذ لا يمكن تحقيق أي تسوية إنسانية في ظله، وهو من جهة ثانية خطأ استراتيجي لأن طوباوية الحلم الكردي قد تبدد إمكانية تحقيق الممكن، إذ لا يمكن تجاوز التعقيدات الإقليمية، والرقعة الشاسعة التي يوجد بها الأكراد ليست بنفس الكثافة من الحضور الكردي، كما أن التداخل بين الأعراق والشعوب أوجد الكثير من الكيانات التي لا يمكن التسليم بكونها تخص عرقا أو فئة دون غيرها، والدعاوى التاريخية لا تصمد دوما في تأكيد حق الهيمنة أو الغلبة، ولذلك ما يصلح أن يكون على محمل قومي انفصالي هنا، قد يكون الأفضل له أن يؤخذ على محمل وطني اندماجي هناك، دون التفريط بالحقوق الإنسانية والثقافية في الحالتين.

واقعية الحلم لا تعني اغتياله، والبعد الثقافي لأي هوية يرمي إلى حفظ حقها في المساهمة في بلورة البيئة الخاصة، والواقع الإنساني العام، لذلك فإن التدقيق في أولويات العمل السياسي والثقافي الكردي في المرحلة الراهنة أكثر تطلبا للحنكة والحكمة، مع التأكيد على بلورة أهداف استراتيجية تكون هي مرجعية أي غايات تكتيكية وليس العكس.

الانفصال عن الأجندة القومية غير واقعي، وغير منصف، ولكن الانخراط في الأجندة الوطنية بما لا يجحف بحق الأجندة القومية يبقى هو الأمر الأكثر واقعية، كما أنه يمكن من تحقيق وضع إنساني وثقافي قابل للنماء، وهو أمر بالغ الأهمية لأن السياسات التعصبية والشوفينية ضد الأكراد في مختلف الدول التي تتقاسم أرضهم، كانت دائما تجتهد في إدامة حالة تخلف شاملة تنموية وتعليمية واجتماعية، حيث إن هذا النقص الحاد في الوعي كان يسهل الهيمنة عليهم واستخدامهم حتى ضد انتمائهم. ويبدو لي أن التنمية الشاملة للبيئة الكردية ستكون حصانة لها من أي سياسات معادية، وتفتح الأفق نحو استعادة الحقوق الكاملة من دون الدخول في صراعات خطرة. لذلك فإن الإحجام عن مساندة الحراك الاحتجاجي الشامل بفعالية وقوة قد يفوت فرصة تاريخية نحو تحقيق الأهداف الأساسية للأكراد، صحيح أن واقع المناطق الكردية يعج بإشكالات وخلافات وصراعات ومخاطر لا تزال نائمة، إلا أن التحرك الكردي في إطار الهوية السورية سيجنبها من دون شك مغبة طرح شعارات انفصالية، وبنفس الوقت يجب التعامل بذكاء مع الحقوق الثقافية والإنسانية الخاصة، بحيث تمنع أي ممارسات تتقصد إذابة الهوية الكردية أو القضاء عليها، وهذا الأمر يتطلب جهدا خاصا ورؤية عميقة واستراتيجية في كيفية المواءمة بين الأجندة القومية والأجندة الوطنية، بحيث لا تكون أي منها معاكسة للأخرى، وهذا الأمر ممكن من خلال التعاون مع مختلف أطراف النسيج السوري من أجل تحقيق العدالة والديمقراطية.

ثمة تعبيران أساسيان نلاحظهما في الحراك الكردي الراهن، التعبير السياسي انحدر للأسف نحو الانعزال والتشكيك في بقية أطياف المعارضة السورية، وخاصة بعد مصرع الناشط البارز، مشعل تمو، الذي كان ينهج نهجا سياسيا فيه الكثير من الوعي التاريخي والظرفي، والتعبير الثقافي الذي هو في معظمه يدرك أهمية الأجندة الوطنية وإن كانت عناصرها تختلف من اتجاه إلى اتجاه.

يطرح البعض الفيدرالية بشكل مبكر، وهم يثيرون حفيظة المكونات الإثنية في سوريا عامة ومنطقة الجزيرة السورية بشكل خاص، وأعتقد جازما أن هذا الطرح فيه مشكلات تستعصي على الحل، فثمة واقع ديموغرافي جلي في هذه المنطقة يجعلها أعقد بكثير من حالة (مدينة كركوك) العراقية، والدافع نحو هذا التبني في رأيي نوع من الخلط بين (الكيانية) والفيدرالية، فالكيانية تحقق للأكراد حقوقهم الكاملة في المواطنة والخصوصية بآن واحد، وتحفظ لهم حقوقهم الثقافية والحياتية، مع الاندماج الوطني في الدولة السورية من دون أي تمييز ضدهم وخاصة في المجال السياسي، أما الفيدرالية فإنها من دون شك لن تكون ممكنة ديموغرافيا على الأقل. إذ إن الجزيرة السورية تحفل بتنوع عرقي وديني وإن كانت نسبة الأكراد أعظم من غيرهم، وهنا علينا ألا نلجأ للتصورات التاريخية لحسم المسألة لأن التفسيرات شديدة التباين من جهة، كما أن طول العهد بالحالة يجعلها أشبه بقدر لا يمكن رده من جهة ثانية، وإن كان من الواجب الحثيث تعويض المتضررين من سياسات النظام البعثي طيلة نصف قرن. إن إثبات أن الفيدرالية ليست ضد الكيانية، قد تكون صعبة التقبل في ظل ثقافة اعتادت مفاهيم الهيمنة، ولا يجب الاستشهاد بنماذج تاريخية مجحفة إلا من أجل نزع القداسة عن الانحياز للعروبة على حساب الإنسانية، ذلك أن هذه النماذج فيها من إشكالياتها الكثير ناهيك عن كونها حالة تفاعل مع ظرف معرفي وتاريخي معين.. والإخلاص للشرط العياني التاريخي يتطلب منا أن نبحث في الشكل الحديث للدولة، التي هي نتاج حداثة فلسفية واجتماعية وهيكلية وحقوقية وثقافية، الدولة التي تنتمي إلى العصر وليس الأنظمة المستعارة من أحقاب بدائية أو موغلة في القدم. إن عالمنا المعاصر مليء بنماذج متقدمة من الدول متنوعة الإثنيات.

وأعتقد أن الانحياز للحالة الإدارية المترافقة مع إدراك وحرص عميقين للرؤية المتبلورة حاضرا حول الرؤية الحقوقية للأفراد والثقافات المتباينة، يمكنه أن يفرز حالة نستطيع أن نقول إنها تبشر بكيان للدولة السورية متماسك وواعد.

في إطار الجهد الكردي، أعتقد أنه يجب أن يكون هناك الكثير من الدينامية السياسية بين الأجندة القومية والوطنية، لأن الانغلاق على القومية قد يجعل الأكراد في صراع مستمر مع الإثنيات المجاورة لهم أو المتعايشة معهم، والانغلاق على الوطنية يهدد بالذوبان والخنوع، بمعنى أن عدم خلق حالة تضاد بين المشروع السياسي القومي والمشروع السياسي الوطني هو أمر مطلوب جدا من أجل تحقيق الحضور الإنساني للفرد الكردي وثقافته.

أما فيما يخص البنية المتعصبة، التي تشمل معظم الأطراف السياسية والآيديولوجية سواء أكانت علمانية أو إسلامية. أعتقد أنه من المهم رفض أي شكل من الهيمنة من قبلها، ولكن عبر نفس تفاعلي مرونته في الوسائل وليس الأهداف والرؤى، إذ إن المرحلة تتطلب عدم التشنج أو الانزواء، لأنهما يقوضان إمكانية تحقيق التغيير اللائق بالإنسان نحو مجتمعات أكثر حداثة ووعيا.

* كاتب سوري