ديمقراطية العرب في حوض جاف!

TT

مفردة «الديمقراطية» ربما من أكثر المفردات السياسية التي يتداولها العرب ومن بعدها مفردة «الحرية»، وكلتاهما مفرغة من محتواها ومحرفة عن معناها، منذ كتاب غسان سلامة المعروف «ديمقراطية من دون ديمقراطيين» وكوكبة من الكتاب العرب يتناولون تجارب بلادهم تحت هذا العنوان أو ما يقاربه، كلها تصل إلى المعنى نفسه. وفي تصفح سريع لهذا العنوان لم توجد بلاد عربية لها حظ يسير من الممارسة السياسية الحديثة إلا وظهر من ينتقد الممارسة تحت ذلك العنوان الذي يفي بالقول إن هناك شكلا من الممارسة ولكنه فاقد المحتوى.

يهمش «الديمقراطيون» العرب مخالفيهم في الوطن، سواء كانوا في العرق أو الطائفة أو الديانة أو اللهجة أو الاجتهاد السياسي، إلى حد الإبعاد بل، وربما التنكيل بعد ذلك، بل وتكال لهم تهم جاهزة، سواء كانت دينية أو عرقية أو طائفية أو غيرها من سبل تحقير الاختلاف مع الآخر.

حين ننظر إلى الخارطة العربية من الكويت إلى نواكشوط نجد أمثلة مكررة من التهميش للآخر المختلف في الممارسات السياسية التي نطلق عليها تحببا «ديمقراطية»، لعلي أذكر آخرها، ففي الكويت يقوم مجلس الأمة بتشكيل لجان تحقيق في أمور مختلف عليها وتشكل لجان للتحقيق، كلها من الأغلبية التي فازت في الانتخابات الأخيرة، والتي لها أجندة محددة، ودون وجود عضو واحد من الطرف الآخر، عضو يكون «محلالا على الأقل»، بل وتكيفت عملية اقتحام مبنى مجلس الأمة التي قام بها البعض وسجلت قبل أشهر على أنها «جريمة» أودعت النيابة العامة، تطيف من الأغلبية الجديدة، على أنها «دخول» عادي لا يستحق التجريم!

أما مصر الكبيرة والغنية بتجاربها فيصوت مجلس الشعب على أن يكون نصف لجنة المائة التي سوف تكتب الدستور الجديد من أعضائه، وبما أن هناك أغلبية من لون سياسي واحد في ذلك المجلس فإن معظم نصف المشاركين في كتابة الدستور هم من نفس اللون السياسي، ذلك قصور واضح وتام لما عرف بالممارسة الديمقراطية وتطورها في المجتمعات الأخرى. من هنا بح صوت كتابنا بل ونفد مدادهم بالقول إن ما لدينا ظاهريا ديمقراطية، أما الحقيقة فهي ديكتاتورية من خلال صناديق الانتخاب. لقد نسي كثيرون أو تجاهلوا في فضائنا العربي أن للديمقراطية توصيفا، أبسطه هو حكم الشعب من خلال الشعب.. من أجل الشعب.. يتذكر معظم الديمقراطيين العرب حكم الشعب من خلال الشعب، أما «من أجل الشعب» فإنه في الغالب منسي من التعريف العربي وبالتالي الممارسة.

يستمر رئيس البرلمان المصري لنصف قرن رئيسا من غير منازع، ويتبعه رئيس البرلمان اللبناني في نفس المسار، وتسمى «ديمقراطية»! ربما مثل تلك الممارسات التي دعت المفكر الراحل الكبير زكي نجيب محمود إلى أن يقول قوله الشهير قبل أربعين عاما: «إني أقولها صريحة ورزقي على الله، وهي أننا على درجة من التخلف أدعو الله أن لا يطول معنا بحيث ندخل عصرنا هذا، وعقيدتي أننا لو استطعنا أن ندخل القرن العشرين في آخر أعوامه لكان ذلك خيرا نحمد الله عليه». لو مد الله بعمر زكي نجيب محمود لليوم لربما أصر على قوله ذاك، لأن الوضع بقي على حاله منذ الأربعين عاما المنصرمة، ومتوقع أن يستمر! فحتى الشكل الديمقراطي هو استحواذي يمارس الغلبة لا الحوار.

في الأربعين عاما الماضية أعتقد العالم لأكثر من مرة – ومنهم العرب – أن انتصار الديمقراطية بمعناها الغربي هو انتصار نهائي، حدث ذلك بعد سقوط وتبعثر الدولة السوفياتية في نهاية القرن الماضي، كما حدث في بداية «ربيع العرب»، ومن المضحك المبكي أن سرعة ظهور النتائج السياسية في هذا العصر السريع لا تحتاج إلى عقود من السنين، بل إلى أشهر قليلة، وها هي النتائج في كل من بغداد ومصر وتونس مرورا بالكويت، جلها تقول إن القضية ليست في التصور أو الفكرة، بل في التطبيق على الأرض. لعل ما يجري الآن من تبشير بهذا النظام أنه الوحيد الصالح هو إفراغه من محتواه على الأرض العربية، تذكرنا موجات التفاؤل تلك بالذي ساد العالم عندما غزت المسيحية أوروبا وعالم البحر المتوسط في القرن الرابع الميلادي، لكن المسيحية لم تكن بالطبع استاتيكية، فقد استمرت في التطور إلى مذاهب وفرق تأثرت بدورها بالجغرافيا وبثقافات الأمكنة التي ضربت جذورها فيها، ولعلنا نتذكر تلك المقولة الشهيرة: «إن المسيحية عندما دخلت روما لم تتمسح روما وإنما ترومت المسيحية». وهكذا تحولت الكنيسة التي أسسها القديس بطرس إلى منظمة روحية وهيراركية أدينت بمسؤوليتها عن فترات طويلة من العنف والتعصب الأعمى وعصور الظلام التي لفت أوروبا، ولم تجعل المسيحية العالم أكثر أمنا، بل إنها لم تجعله، في الممارسة، أكثر أخلاقية، لكنها جعلته أكثر تعقيدا.

وهكذا فإن الديمقراطية، التي تكتسح العالم اليوم كما فعلت المسيحية ذات يوم، قد تفعل الشيء نفسه أيضا، هذا باختصار لأنها تتلون بألوان البيئة، وتضفي عليها شعارات خارجة عن فلسفتها، وممارسات متناقضة مع أهدافها. وهي بإيجاز «سكّر مُر الطعم»، إن أردنا التشبيه. هذا السكّر مُر الطعم هو الذي يشيع الإحباط اليوم في الكثير من القطاعات، وخصوصا قطاع المستنيرين العرب.

في الأول من سبتمبر (أيلول) 2001 ومن خلال برنامج دراسات الديمقراطية في الوطن العربي الذي يعقد في جامعة أكسفورد في نهاية كل صيف وتنظمه مجموعة عربية، وكان في سنته الحادية عشرة، قدم كاتب هذه السطور دراسة مطولة (نشرت في كتاب بعد ذلك) حول التشاؤم الذي وجدته في ممارسات وتطبيقات الديمقراطية العربية، وقتها وجدت تلك الأطروحة الناقدة الكثير من المعارضة من الحالمين بأن الديمقراطية هي ترياق العرب للخروج من التخلف، وبعض أولئك الآن في سدة الحكم الذي نتج عن الربيع العربي أو قريبون منه، ومن حضر ذلك البرنامج من الأصدقاء أو من يعرف عنه قد يتذكر النقاشات الساخنة على هامشه، ليسود العالم بعد هذا اللقاء بعشرة أيام صدمة أحداث الحادي عشر من سبتمبر، زاد التفاؤل أن تلك الصدمة سوف تجعل الغرب يفرض الدمقرطة على عالم عربي متخلف، إلا أن كل الحروب والمناورات لم تحقق تلك الأمنية، وإن حققت انتشار صناديق الانتخاب، إلا أنها ليست الديمقراطية، هي ثقافة لم نحُزها بعد، لعل تحذير «أبو الفكر الديمقراطي الحديث» واجب التكرار هنا، فالكسيس دي توكوفيل، الذي حدثنا عن حتمية الديمقراطية، حذر قائلا إن من يتخوف من الحكم المطلق «ينبغي أن يخاف منه على نحو خاص في العصور الديمقراطية»، لأنه يتغذى على رغبة الذات في الاستحواذ وعلى الأمن الشخصي الذي تعززه المساواة! يا لها من مقولة تصدق علينا!

آخر الكلام:

الديمقراطية كالسباحة، يجب تعلمها بالممارسة، ولكن ليس في حوض جاف.