هل نجح الحل الاستئصالي؟!

TT

كرر المسؤولون السوريون عشرات آلاف المرات أنهم نجحوا في ابتكار حل استئصالي للظاهرة الإسلامية، وتباهوا أمام كل من تحدثوا إليه من ساسة وصحافيين ورجال أعمال عرب وأجانب، بقدرتهم على اجتثاث التطرف والمذهبية بأكثر الطرق جذرية. وقالوا إن أسلوبهم المجرب لن يترك فرصة لمعاودة بروز التيار الأصولي من جديد في أي مكان من أرض سوريا. ونصحوا العالم باعتماد طريقتهم الناجحة في القضاء على التطرف المذهبي المسلح. وأكدوا أن أي تحرك شعبي سلمي يعادي النظم القائمة سرعان ما ينقلب إلى عصيان أصولي مسلح بمجرد أن يبدأ، فالأصل في أي حل يكمن في منع الشعب من القيام بأي حراك، بغض النظر عن طابعه ومطالبه، وفي التعامل معه بجميع سبل ووسائل العنف، أخذا بالحسبان أنه مشروع متطرف وتحرك أصولي مسلح، وإن بدا مغايرا لذلك في الوهلة الأولى، وكان المشاركون فيه مسالمين كالخراف.

آمن الرسميون السوريون طيلة ثلاثة عقود بقدرة نظام أمني يعتمد العنف في علاقته مع شعبه، على استئصال الإسلام السياسي مرة واحدة وإلى الأبد، مهما كان خفيا وغارت جذوره العميقة في الواقع ووعي الشعب وأعماق التاريخ، وقدموا خبرتهم في استئصال الإسلام السياسي كخبرة فريدة في العالم الحديث، ونصحوا العالم، وخاصة ساسة أميركا، بالاقتداء بهم والتعلم منهم وتطبيق خبرتهم وتصديق نظريتهم، حتى إنهم قالوا بكل صراحة إن الاقتداء بما فعلوه بين عامي 1980 و1982 في كل من حماه وحلب ضد الإخوان المسلمين، كفيل بالقضاء حتى على تنظيم القاعدة، بل إن بين الساسة السوريين من عاب على واشنطن رفضها قبول خبراتهم، واتهمها بالإبقاء على الظاهرة الأصولية لأن سياستها الحقيقية تقوم على تفعيل الصراع بين المذاهب وليس على القضاء على المذهبية والتطرف.

وكان بعض رجال الأمن السوريين يجرون بين حين وآخر حوارات مع معارضين معتقلين، استمرت معظم الفترة بين عامي 1980 و2011، لإقناعهم بصحة السياسات التي اتبعوها إبان ثمانينات القرن الماضي في مواجهة ظاهرة الإسلام السياسي السوري، وظلت محل نقد شديد من المعارضة السورية العلمانية والديمقراطية، التي رأت في النهج الرسمي المتبع آنذاك اجتثاثا للمجتمع وليس للأصولية والتطرف، وأصرت على أنه كان وسيبقى نهجا فاشلا، ليس فقط بسبب ما اعتمده من قوة لا مبرر لها طالت أساسا بسطاء الناس، وأنزلت بهم خسائر فادحة جدا بالمقارنة مع خسائر مسلحي التنظيمات الإسلامية، علما بأن عدد المتطرفين كان قليلا جدا ويمكن التعامل معه دون إيقاع ذلك القدر الهائل من التدمير، الذي حل بالمجتمع والدولة وقوض وحدة الأول وحضور ودور الثانية.

كان عدد الإسلاميين في مدينة حماه، الذين أحصتهم جريدة «تشرين» الرسمية أوائل عام 1982، قرابة مائة وخمسة وعشرين رجلا، بينما بلغ عدد قتلى المواطنين العاديين عشرات الآلاف، الأمر الذي يؤكد أن النظام اتبع نهجا قام على اجتثاث الشعب عقابا له على وجود إسلاميين بين أبنائه، وبما أن اجتثاث الشعب لا يتم بجهود وتدابير عادية وليس أمرا عاديا، فإنه يتطلب قدرا أقصى من عنف عام وعشوائي يستهدف جميع المواطنين بغض النظر عن موقفهم السياسي عامة ومن الظاهرة الإسلامية خاصة. لا عجب أن قُتل وصُفيَ، خلال ملاحقة وتصفية هذه القلة القليلة المسلحة، مئات المنتمين إلى حزب البعث والحزب الشيوعي الموالين للنظام، في ما عرف بعد ذلك بـ«حوادث» حماه.

واليوم، يبدو جليا أن «الحل السوري» لظاهرة الإسلام السياسي كان فشلا حقيقيا، لأسباب أهمها استحالة استئصال فكرة أو عقيدة بالعنف، وكسب ولاء شعب بالقوة، وعبثية العقلية التي ترى في خوف الشعب من النظام القائم مصدر شرعيته، إن اكتمل بالعنف ساد الهدوء واستقرت الأوضاع وانقلبت شرعية الإكراه إلى شرعية قبول، وأمن أهل النظام على أنفسهم وسلطته. والغريب أن النظام، الذي كان يفاخر بحله الاستئصالي الجذري، سارع إلى اتهام من كان يؤكد أنه لم يعد لهم وجود وليسوا قادرين على الظهور من جديد في سوريا، عنيت الإسلاميين المتطرفين، بالوقوف وراء أحداثها الجارية منذ عام، وأنه يعاقبنا إن لم نرد كل ما يقع في بلادنا إلى وجود وتأثير الأصوليين الإسلاميين، الذين كان ينفي نفيا قاطعا وجازما قبل يوم واحد من نشوب الثورة في 15 مارس (آذار) الماضي، أن يكون لهم أي وجود أو نفوذ في سوريا، وأعلن كبار قادته في تصريحات متتابعة خلو «القطر المناضل» منهم، واستحالة ظهورهم فيها، لأن عين الأمن وأجهزته، التي اخترقتهم وتتحكم بهم، ترصد حركاتهم وسكناتهم، فمن غير الممكن أن ينجحوا في تنظيم أنفسهم من جديد، ناهيك عن تسليح من ينتمون إليهم، بينما هم مكشوفون ومعروفون وملاحقون بكل صرامة.

لم يتوقف أهل النظام طويلا عند هذا التناقض الفاضح، الذي يعتبر اعترافا ضمنيا بفشل «حلهم النموذجي» لمشكلة الأصولية والتطرف الديني والمذهبي، بل اتهموا بكل بساطة، وبضمير مرتاح، إسلاميين من صنع خيالهم بالوقوف وراء المظاهرات ضدهم، واتهموا الشعب بالتأسلم، واستحضروا مفردات وحجج الثمانينات من القرن الفائت، التي لم يترددوا يوما في اعتبارها ماضيا انقضى وانصرم، لن يعاود الظهور تحت أي ظرف، بفضل نجاح حل عام 1982 الاستئصالي الفريد في بابه.

لماذا ابتلع النظام كلامه عن نجاحه، واتهم الانفجار المجتمعي السوري الكبير بالمذهبية والتطرف، مع أن شعاراته كانت جميعها سلمية، ومطالبه انبثقت كلها من رغبته في الحرية؟ أعتقد أن الجواب بسيط: لأن أسلمة الحراك تجعل النظام طرفا تقدميا يناضل ضد رجعية أصولية يمكنه تخويف العالم بخطرها، ولأنه أراد أن يحظى موقفه بدعم خارجي باعتباره جزءا من الحرب العالمية ضد الإرهاب، ولأن الإقرار بأن من تمردوا ضده هم مواطنون مسالمون يريدون استعادة حريتهم التي فقدوها بعد انقلاب البعث عام 1963، يجعل من الصعب عليه رفض مطالبهم والتعامل معهم بالعنف وحده، ويعزله داخليا وعربيا ودوليا، ويحول رحيله إلى مطلب عام، داخليا وخارجيا، يقف حجر عثرة دون قيامه بتطبيق حل استئصالي جديد نرى اليوم بأم أعيننا أنه يستهدف مواطني سوريا العاديين في مدنهم وقراهم، وكما في سهولهم وجبالهم، بغض النظر عن مواقفهم الخاصة ومعتقداتهم الدينية أو السياسية، ودون استثناء البعثيين منهم!

لم يعد هناك بين رسميي سوريا من يتحدث عن نجاح الحل الاستئصالي، أو من يشيد بـ«النموذج السوري» في التصدي الناجح للظاهرة الإسلامية. اليوم، يتحدث هؤلاء لغة تؤكد فشل سياساتهم في معالجة الظاهرة الإسلامية، لكن ذلك لا يمنعهم - وهنا يكمن طابع سلوكهم غير العقلاني - من تكرار ما سبق لهم أن فعلوه في ثمانينات القرن الماضي، في تجاهل تام لما وقع من تطور في المجتمع، وتهافت في السلطة والنظام، ومطالبة شعبية سلمية ومجتمعية عارمة بالحرية، ومرور عام على بدء الحراك، وعام على فشل إخراج الناس من الشارع بالقوة والعنف، وعلى انكشاف عبثية الحل الأمني المعتمد رسميا، الذي فشل بدوره بدلالة تزايد عنفه من يوم لآخر، ولو كان ناجحا لتناقصت شدته وقسوته بمرور الوقت.

يرفض رسميو سوريا التعلم من تجاربهم وتجارب العالم من حولهم، ويتصرفون وكأن بوسعهم فرض إرادتهم على شعبهم، في زمن يكشف بجلاء أن نجاح الثمانينات المزعوم كان فشلا صارخا، وأن ما فشل في ظروف كانت ملائمة بالنسبة إلى النظام، لن ينجح اليوم، في شروط أدت إلى تخطيه تاريخيا وواقعيا، بينما يرفضه شعبه، ويفتضح إفلاسه السياسي والعسكري!

متى يقلع النظام عن سياساته الراهنة؟ إنه لن يقلع عنها لأنه يرفض التعلم من الواقع. وقديما قيل: إن من يرفض التعلم من واقعه، يحكم على نفسه بالموت!