من «لا تصالح» إلى «لن نركع» أوهام الحشود!

TT

انتهت «عاصفة» لن نركع التي أذكى أوارها الشيخ محمد حسان، الداعية المصري الذي تحول في ظل «فوضى» السياسة في الحالة المصرية إلى ضابط إيقاع للعلاقات المصرية - الأميركية؛ عبر حملته لجمع التبرعات، رفضا للمعونة الأميركية، تلك الحملة التي كان لصداها الإعلامي وزوبعتها الدعائية أثر كبير فاق توقعات حسان والمراقبين؛ بل وجعل بعض الدوائر السياسية المتعقلنة في مصر تفقد صوابها وتندفع وراء رغبات الجماهير الكاسحة، لكن شيئا غير الشعارات لم يحدث، وفي نهاية المطاف تم إطلاق الناشطين بطريقة سلسة أقرب إلى توديع الوفود السياحية من فئة (VIP).

ليس المهم الحديث عن تضخم دور الداعية والواعظ ليصل إلى مؤسسة دبلوماسية تحاول فرض رؤيتها على العلاقات الخارجية بين الدول، فما تعيشه مصر الآن هو جزء من مظاهر قيمية بالمعنى السياسي بكل ما تحمله من فظائع وأهوال وأشياء غير متوقعة؛ لكن المهم هو ذلك التبرير والتحالف المشبوه الذي تمارسه النخب السياسية وبعض المتملقين لنجوم المرحلة من الإسلاميين بدعوى أن هذه رغبة الجماهير والشارع، وهو ما يقتضي قراءة لآليات عمل الحشود وتغذيتهم بالشعارات المدغدغة للمشاعر الوطنية والوجدان الديني.

أستخدم لفظة «الحشود» بمدلولاتها النفسية متجنبا لفظتي «الشارع» و«الجماهير» لأنهما تحملان قدرا من المضمون والمحتوى المتجانس، فالشارع السياسي عادة يفترض حدا أدنى من المشتركات، كما أن الجماهير في السياسة والرياضة، وحتى الفن، تجتمع على توافق في الذائقة، في حين أن «الحشود» تعبر بطريقة شكلانية كلية، ولا تعبر عن حقيقة أفرادها، وحتى لجوء الحشود للعنف غير المبرر هو في نهاية الأمر بسبب اكتسابهم الشعور بالقوة وهم ضمن الحشد، ولذلك يركز المتخصصون في رصد ظواهر «الحشود»، ومنها عدم الشعور بالذنب عند القيام بأعمال تخريبية، أو قبول أفكار لا واقعية بسبب تلازم حالة الفوضى مع غياب المسؤولية الجنائية، أو حتى آليات المحاسبة وممارسات النقد والعقلنة في الحالات الفكرية كموضوع «لن نركع» التي في نظري أنها أسوأ بكثير من الحالة السائدة التي عشناها في مرحلة «لا تصالح».

يؤكد علماء الاجتماع المهتمون بدراسة الحشود، سكانر وميللر وتارد كما سبقهم لوبون في الفرنسي الأكثر شهرة بعمله عن الجماهير، على فهم عمل آليات الحشود التي تفقد سيطرتها، لكنهم أيضا لم يغفلوا أدوار الأطراف الأخرى خارج الحشد، وهو الأمر غير المفكر فيه عادة في الحديث عن نقد «سلوك» الحشود التخريبي، حيث إن تلك الحشود تتأثر بدرجة كبيرة بردود الفعل في محاولة من الأفراد داخل الحشد لتمييز أنفسهم.

«الفراغ السياسي» الذي يخلفه الجيش المصري حتى الآن، قصدا أم دون قصد (لا تهم القصدية كثيرا في عالم السياسة لأنها أداة قيمية وأخلاقية)، ينتج عنه أن يقوم رموز ونجوم شعبيون بأدوار خطرة جدا، وبالتالي تنساق الحشود لهم دون وعي، وحتى بعض النخب، كرد فعل تجاه ذلك الفراغ وعدم الشعور بالاطمئنان، فما حدث هو أن الكل يتحدث بجهل شديد عن المعونة الأميركية وآليات تقريرها في السياق والسباق الأميركي، والمعونة تتسم بمصالح وتعقيدات التحالف بين القوى السياسية والضغط على صانع القرار دون أن تكون هناك مؤامرة على الكرامة للدول الممنوحة، فالمعونات هي جزء من الامتداد السياسي، وليست على طريقة الشيخ حسان وعموم العمل الخيري الإسلامي أنها تبرعات منزوعة المصالح ولو بشكل ظاهري، ففي النهاية ما تفعله هذه الحملات أقرب إلى «الإعالة» منها إلى مشاريع الاكتفاء الذاتي المستدام.

الجدل حول المعونات في الولايات المتحدة لا يتعلق بالدول، بل بقدرتها على الاستفادة منها في تطوير نظمها الديمقراطية، فلا أحد يهب دون جدوى سياسية، كما أن الدول المانحة هي في نهاية الأمر تخضع لعمليات استجواب كبيرة كل مرة لجزء من المفهوم الرقابي والمحاسبي الطبيعي جدا.

وبدل أن يشتغل الخطاب السياسي الرسمي بمناقشة المعونة ومحاولة قطع الطريق على الأميركيين لاستحلاب أجندات سياسية قد لا تتفق مع خطاب «الثورة»، انشغل الجميع بمباركة حملة الشيخ حسان حيث التقى الجنزوري وقيادات في الجيش، بل وحظي بمباركة شيخ الأزهر، وهو ما يلقي بظلال كثيفة من الإحباط حول ما آلت إليه الحالة السياسية في مصر، طبعا ليس القارئ بحاجة إلى جرعة من الكوميديا حول كم المقالات العنترية التي كتبت حول شعور أميركا بالرعب والهوان من مبادرة الشيخ حسان.

الحشود التي انطلقت هائجة تجاه هذه المبادرة لم تفكر جيدا أن المطلوب يفوق قدرتها، حيث لا تستطيع أن توفر 12 مليار جنيه مصري سنويا، حتى مع تبرعات رجال الأعمال من أنصار النظام السابق الذين وجدوا في هذه الحملة ضالتهم لإعادة شرعيتهم بختومات دينية معتمدة.

الأكيد في هذا السياق هو أهمية دولة مركزية مثل مصر في السياسة الأميركية، بل والاتحاد الأوروبي والدول الكبرى، لكنها لم تعد بنفس القوة والمتانة، لا سيما إذا علمنا أن الاجتماعات بقيادة «الإخوان» والجيش كانت مطمئنة للأميركيين حول المحافظة على معاهدة السلام، رغم كل «الشعارات» المرفوعة من قبيل «لن نركع»، وما يتم تجاهله في هذا السياق هو أن الحملة ومناصريها تجاهلوا أبجديات في أثر الانعزال عن الولايات المتحدة والعالم، فهو يقتضي أيضا بالضرورة تجاهل قدرة أميركا على التأثير في صندوق النقد الدولي.

الأكيد أن هناك أخطاء كبيرة في فهم الولايات المتحدة لمسألة الثورة برمتها، وتحديدا آليات عمل الحشود وما يستفزهم، وخاصة عندما غيرت آليات توزيع المعونة وخصصت أموالا كثيرة نسبيا لمنظمات غير حكومية دون تمهيد ذلك بمفاوضات تراعي حساسية نظرة «الحشود» إلى تلك المؤسسات في مجتمع للتو تعافى من مركزية الدولة وقبضتها الأمنية.

الكرامة العامة للبلاد، إذا صح هذا الوصف المملوء إباء، هي مسؤولية الدولة مثل الأمن، وإدارة شؤون البلاد والعباد لا يمكن أن تترك لنجوم تعبئة الحشود التي ما زالت مخمورة بإيقاعات «لا تصالح»، في حين أنها تحتاج الآن إلى من يدعوها لأن تتماسك وتفكر في مستقبلها الغامض والمفتوح على كل الاحتمالات.

[email protected]