أسوأ مشاعر السجن

TT

هل من نبأ سعيد يمكن أن يتلقاه السجين عدا العفو أو نهاية العقوبة أو إخلاء السبيل؟ كان أسعد خبر تلقاه الكاتب التركي أورهان كمال أن ناظم حكمت، شاعر تركيا، سوف ينقل إلى السجن الذي هو فيه، سجن بورصة. كان ذلك أواخر الثلاثينات، وكانت التهمة الموجهة إلى ألمع اسمين في البلاد واحدة: التحريض على العصيان في البحرية والجيش.

منذ وصول ناظم حكمت إلى سجن بورصة قال له أورهان كمال، مخاطبا إياه بالمعلم، إنه يريد منذ اليوم تدوين ملاحظات عنه يجمعها في كتاب، فهل يسمح المعلم بذلك؟ أعرب حكمت عن سروره بالأمر، فكان كتاب «في السجن مع ناظم حكمت» (بالإنجليزية عن دار الساقي).

من الذكريات التي لا تنسى أنني حضرت أمسية شعرية لناظم حكمت في «الندوة اللبنانية» التي استضافت طوال عقود أدباء وفلاسفة العالم، كان ناظم حكمت يلقي بالتركية وسعيد عقل يترجم إلى العربية، لكن الناس لم تلتفت إلى الترجمة رغم طريقة سعيد عقل في الإلقاء. لقد بهرنا ناظم حكمت فكنا نعرف أنه يلقي شعرا عظيما ولم يكن مهما ما هو الشعر العظيم. ومع ذلك حفظت يومها عنه رائعة قصيرة تقول:

تعودنا، الرفاق وأنا

أن نشتري لك باقة بنفسج كل أربعاء

هذا الأربعاء لم نشتر البنفسج

اشترينا بها خبزا

أخذت كتاب أورهان كمال لكي أقرأ عن تجربة فريدة في تاريخ الآداب. كيف كان يتصرف العملاق الشاعر في السجن؟ وإذا بي أقع على ما هو أعمق وأحزن. ينسى كمال بطله ومعلمه عفوا ليتحدث عن السجناء الآخرين. ماذا يعذب في السجن أكثر من أي شيء آخر؟ لقد قرأت كثيرا من «آداب السجون»، من نورمان ميلر إلى جان جينيه، ولا ننسى طبعا مذكرات مصطفى أمين وكثيرين آخرين.

لكنني لم أقرأ في أي مكان آخر أن أفظع ما يعانيه الإنسان في السجن هو الشعور بالوحدة (ليس داخل الزنزانة الانفرادية). يقول أورهان كمال: «معظم السجناء كانوا يخترعون قصصا وهمية كي يحيلهم الطبيب إلى المستشفى أو الحمامات. أو إذا كانوا يملكون القليل من المال إلى طبيب الأسنان. كل ذلك من أجل أن يخرجوا من رتابة رؤية الجدار نفسه، الممرات الإسمنتية نفسها، وتلك القطعة من الجبل التي يرونها من النافذة منذ سنوات. أو لكي يتنفسوا الهواء في الخارج، قبل أن ينسوه تماما من طول الحبس في الداخل. وكانوا يأتون إلى ناظم للتوسط لهم لدى السجان: (معلم، لديك قدرة هائلة على الإقناع)».