الدرس الأهم!

TT

لعل النتيجة الألطف في مهرجان «الربيع العربي» الحاصل في منطقة الشرق الأوسط هو التنوع اللغوي الجديد الذي طرأ على الناس وعلى مصطلحاتهم التي يستخدمونها، وهي تذكر قليلا «بالخزعبلات» السابقة التي كان يقوم بها أبواق الإعلام في أنظمة الطغاة في عالمنا العربي، فمن ينسى اختراع اسم «النكسة» لأسوأ هزيمة مني بها العرب في عصرهم الحديث، وتم حشو أذهان الناس بهذا اللفظ ليلا ونهارا كنوع من المخدر الكلي لإبعاد المسؤولية عن القيادات المعنية بتلك الهزيمة النكراء.

وتمادى بعد جمال عبد الناصر وأسطوله الإعلامي الرئيس العراقي صدام حسين الذي مني بهزيمة ساحقة أجبرته على الانسحاب من الكويت بعد أن غزاها بشكل خسيس ليطلق عبر أبواقه الإعلامية لفظ «أم المعارك» ويدعي أنه هو الذي انتصر في هذه المواجهة العجيبة، ورددها من خلفه بعض الأقلام والأبواق المستفيدة والمحسوبة عليه ليتطور اللفظ بعد ذلك إلى مرحلة جديدة في وصف كل الراغبين في القضاء على حكم الطاغية صدام حسين بأنهم «علوج»، وطبعا أثار هذا اللفظ وقتها الكثير من التعجب والسخرية والفضول والتندر والاستهزاء إلى أن وصلنا اليوم لنرى خليطا مذهلا من الألفاظ والمصطلحات التي ما أنزل الله بها من سلطان.

فكل من الأنظمة التي سقطت، أو الآيلة للسقوط، ابتدعت أو ابتُدع في حقها الكثير من الألفاظ الجديدة لكي تبرر أو تفسر أوضاعها وظروفها بشكل أو بآخر. فرأينا بشكل مدهش من يصور أنظمة مجرمة طاغية مستبدة أنها «تمثل» الشعب، والأصدق والأدق أن توصف بأنها أنظمة «تمثل على» الشعب! والأدهى والأمرّ تلك الأنظمة التي روجت كذبا على شعوبها لعقود طويلة من الزمن أنها أنظمة «مقاومة وممانعة»، وهي نفسها التي تخلت عن أرضها طوعا وفي ظروف مريبة وغامضة جدا لكي يكتشف العالم حجم وكبر الكذبة وتبعاتها عبر الزمن الطويل، وليت الأمر اقتصر على ذلك، ولكن يضاف إليه أن قوى حفظ الأمن والنظام تحولت إلى عصابات وقحة تقتل وتنكل بشعوبها بلا رحمة ولا هوادة، وسميت هذه الحركات «البلطجية» أو «الشبيحة» لتكون رمزا واضحا للظلم والتسلط والهمجية بلا شك أبدا.

ولكن المشكلة الحقيقية أننا لا يمكن أن نقيم الذهنية السياسية العربية بمفهوم لغوي فقط ولا بمفهوم سياسي حصري، ولكن أيضا لا بد من مراجعتها بمفهوم نفسي طبي، لأن ذهنية القمع والازدواجية لا تزال موجودة وتسكننا، وهي التي تحتفظ بمدافعين لليوم عن طغاة مثل صدام حسين والقذافي وجمال عبد الناصر والأسد وغيرهم بحجة أنهم مدافعون عن القومية العربية والمواجهة مع إسرائيل، متناسين أن هؤلاء لم يكونوا سوى مجرمين وبامتياز في حق شعوبهم لم يولدوا إلا ذلا وانكسارا وخوفا وتحقيرا لهم جميعا. إذا ما بقيت حالة الازدواجية المرضية هذه فسنكون باستمرار قادرين على إخراج نماذج مرعبة، وصناعة الطغاة منهم، وتحويلهم إلى رموز وطنية تقدس بأسلوب هو أقرب للعبادة وتقدم فيه الشعوب لهم وكأنها قرابين تنحر فداء لهم وتخليدا لأمجادهم.

المهم في «الربيع العربي» وتطوراته المهمة ليس هو تغيير الأنظمة السياسية للطغاة بالمنطقة العربية، ولكن الأهم والأدق والأخطر هو تغيير الذهنية والعقلية والفكر والثقافة القابلة للطغاة والمدافعة عنهم والممجدة لهم ولأفعالهم، فهذا هو العدو الأكبر والأخطر والأهم، ومن دون ذلك سيكون «الربيع العربي» حالة مؤقتة جدا سرعان ما تعود الأمور إلى ما كانت عليه من قبل ذلك دون فائدة حقيقية وكاملة.

[email protected]