وطوا أصواتكم

TT

نشأت في عائلة بسيطة بين أناس بسطاء. لكن وأنا طفل ثمة من علمني أنه لا يجوز أن أتكلم وفي فمي طعام. قلة أدب. ومَن قال لي بعد الطفولة بقليل، لا تقاطع متحدثا لم ينه كلامه بعد. عيب. وقال لي أبي وأنا فتى، إذا تحدث اثنان همسا، فابتعد، لأن ما بينهما أمرا خاصا. لم تزد تنشئتي الاجتماعية على بديهيات الأصول. والباقي تعلمته مع العمر. أو كما يقال، العلم بالتعلم.

اكتشفت عندما كبرت أن أصول الخطاب لا تتوقف على أصول الكلام، بل على الطريقة التي تخاطب بها الناس أيضا. وأن الصوت أسلوب مثل الكتابة. وعندما التقيت في موسكو عام 1972 أشهر وجه تلفزيوني أميركي، ديفيد برينكلي، سألته كيف اختص بأسلوبه الفريد، فقال إنه تعلمه ولم يولد فيه. ففي البداية، كان يتكلم مثل جميع أقرانه. وعلمنا من فيلم «السيدة الحديدية» أن مارغريت ثاتشر ظلت أربع سنوات تتعلم كيف يجب أن تخاطب الناس، خوف أن تخطئ، أو أن يعلو صوتها حيث لا يجب، أو أن تشتد لهجتها، أو أن يسيطر غضبها عليها بدل أن تتحكم فيه.

خسر ريتشارد نيكسون معركة الرئاسة أمام جون كيندي، عندما علا صوته، مما يدل على أن الرئيس المقبل غير قادر على التحمل. لا أذكر كم شاهدت من برامج حوارية أو بالأحرى إن أنسَ لا أنسَ، على قول ابن الرومي، أنني لم أسمع صوتا مرتفعا ولا شتيمة ولا سفاهة ولا تهمة، أبسطها الخيانة والعمالة، وأنت واحد مأجور.

يعنيني هذا الأمر كثيرا. لا أعتقد أنني ضمرت مشاعر حنق وغضب وعدم احترام لسياسي كما شعرت وأشعر حيال جورج بوش ورجاله وعهده. لكنني اعتقدت أن المعركة الوحيدة التي خسرناها معه كانت حذاء منتظر الزيدي. حتى عندما تجلس إلى عدوك، لا تضع حذاءك على الطاولة. كلمة عن أطفال العراق كانت ستحفر في ذاكرة العالم أكثر من حذاء متطاير. أو حذاءين.

بعد انتخابه رئيسا، نصحت خبيرة إعلامية فرنسوا ميتران بأن يشذب نابه الحاد، لأن الناب يوحي للناس بأنه ثعلب أو ذئب. والناس تريد رئيسا تحبه، وليس تخافه أو تحذره. وتغيرت صورة ميتران بعد تهذيب الناب حتى شعر بأنه مدين لتلك السيدة بموقعه الجديد في قلب الفرنسيين. لاحظوا التلفزيونات. لاحظوا الناس في الشارع الذين تطرح عليهم الأسئلة. لاحظوا «الثوار» أمام أي كاميرا. لاحظوا برامج الحوار. لاحظوا «المداخلات» المباشرة. لاحظوا المراسلين في البث المباشر. جميعهم يصرخون كأن الميكروفون معطل والكهرباء ستنقطع. صوت عال في كل شيء. عندما مرض عاصي الرحباني وتألم، كان يضع يديه على أذنه ويشكو لأخيه منصور: في صفير. في صفير. وطوا أصواتكم.