العبرة من يوم الميزانية

TT

حدث واحد، الأربعاء، طغت أخباره وتحليلات متابعاته على بقية أحداث بريطانيا والعالم. الأربعاء الثالث من شهر مارس (آذار) تقليديا هو أوج العمل السياسي في بريطانيا منذ أجيال.

يوم تعد له الصحافة قبل أسابيع، ويتسابق فيه مراسلو وستمنيستر حيث يوظف الصحافيون كل الوسائل بلا خجل للحصول على تفاصيله مقدما.

إنه يوم تقديم مشروع الميزانية العامة إلى البرلمان لمناقشته والتصويت عليه.

الميزانية، بالأرقام المفصلة، في ملف من سبع كراسات تتضمن 672 صفحة، توزع على مجلس الوزراء، وزراء حكومة الظل (المعارضة، وهي هذه المرة حزب العمال) في منتصف صباح الأربعاء، ويصل منه نحو 200 نسخة ترص على مدخل منصة الصحافيين إلى قاعة البرلمان ولا يسمح الحارس بتوزيعها للصحافة إلا في الساعة 12:29.

عملية مرهقة لنا كصحافيين، حيث نكون داخل القاعة للمتابعة والتعليق على المساءلة الأسبوعية البرلمانية لرئيس الوزراء من 12 ظهرا حتى 12:30، ثم نعدو في 12:28 دقيقة إلى الخارج (حيث مكتب سعاة المنصة الصحافية وعليه ترص نسخ الميزانية) للحصول على نسخة والعودة بها إلى القاعة.

هذه العام استغللت مزيجا من شيخوختي الظاهرة بالتوكؤ الدائم على العصا، مع جاذبية وسحر معاملة الجنتلمان للجنس اللطيف، فجندت صحافية إذاعية شابة للركض بالكعب العالي والعودة بنسخة إضافية وتفوز في السبق على الصحافيين الخصوم، في الدقيقة نفسها التي نادى فيها رئيس الجلسة على الوزير جورج اوزبورن مع دقات بيغ بن في 12:30 تماما.

وزير المالية الترجمة الأقرب لـ chancellor of the exchequer تعبير قرون وسطى لمنصب تأسس في عهد الملك هنري الأول في القرن الـ11، ويعني: المسؤول عن تحصيل المداخيل الملكية - بفتح اللام - وحسابات إنفاقها). المنصب، هو ثالث أقدم منصب حكومي (أقدمها اللورد تشانصلور منذ القرن السابع كحامل أختام المملكة، وأضيف للمهام قاضي القضاة بعد الفتح النورماندي 1066 وهو يمثل التاج في مجلس اللوردات كمشرف الدولة على الحكومة؛ ولم يتأسس منصب رئيس الوزراء إلا في مطلع القرن الـ18).

وزير المالية ثاني أقوى منصب وزاري في أعرق الديمقراطيات وبلا إذنه لا يمكن تنفيذ سياسات المملكة داخليا وخارجيا.

فالخزانة تحدد ميزانية كل وزارة من دفاع، وخارجية، وداخلية، ومعارف، وصحة، وشؤون اجتماعية.. إلخ. وميزانيات الخدمات، وتحدد نسب الضرائب، مباشرة وغير مباشرة على الدخول والإنفاق والمعاملات التبادلية والثروات السائلة والثابتة.

صحيح أن الناخبين صوتوا لحزب يعرفون زعيمه اسما وملمون بمواقفه السياسية، مدركين بخيارهم أن التصويت سيجعله رئيسا للحكومة، لكنه رغم تفويض الشعب لا يستطيع وضع أي وعد انتخابي موضع التنفيذ، أو تطبيق سياسة أو حتى طرح مشروع سياسي في البرلمان إلا بالتشاور مقدما مع وزير المالية ومستشاري الخزانة للتأكد من توفر ميزانية كافية لتغطية المشروع الذي يعد به أو التعديل السياسي المقترح. هل المصدر هو اقتراض من البنوك؟ وما سعر الفائدة والتكلفة للخزانة على المدى الطويل؟ أم أن المصدر إنقاص الخدمات بتقليل ميزانية مرافق أخرى؟ أم رفع ضرائب استهلاكية أو على الدخول؟

ومنذ 1708 عندما خلق منصب وزير المالية والشيخ/ اللورد الثاني للخزانة (الشيخ الأول للخزانة هو رئيس الوزراء وكثيرا ما جمع بين المنصبين في القرنين 18، و19) يقدم وزير المالية مشروع الميزانية لمجلس العموم لمناقشته والموافقة عليه.

الحسابات والتخمينات والمناقشات بالرسوم البيانية تبدأ الظهور في الصحافة، منذ منتصف فبراير (شباط) وتتزايد كثافة وتركيزا، وكما وتناقضا كلما اقترب موعد إعلان الميزانية وتبلغ أوجها 24 ساعة قبل الإعلان. والسبب تسريبات المعلومات للصحافة في الأسابيع السابقة لإعلان الميزانية.

تسريبات من نواب البرلمان أنفسهم، وبعضهم وزراء، نلتقيهم باستمرار ونتسامر معهم يوميا، البعض قدم أفكاره للخزانة أو تشاور مع وزير المالية ويريد أن تسجل الصحافة أنه صاحب فكرة جيدة ظهرت في الميزانية.

وتسريبات أخرى من نواب شركاء الائتلاف الحاكم (الأحرار الديمقراطيون)، وهدفهم إحراج زعامة الحزب التي يتهمونها بالتراجع عن وعود انتخابية مالية بضغوط المحافظين كالشريك الأكبر في الائتلاف. وبهدف إحراج الساسة أيضا، هناك تسريبات من موظفين صغار في الخزانة لم تستسغ ضمائرهم بعض السياسات كمنح استثناءات ضريبية للأغنياء ورفع الضرائب الاستهلاكية التي لا يستطيع الفقراء الإفلات منها كزيادة رسوم وقود السيارات مثلا.

وهناك التسريبات المتعمدة، من نواب الحكومة، أو من الخزانة ومستشاري المالية، حيث يسارع الصحافي المتلقي بنشرها – وغالبا لحظيا على «تويتر» أو نشرات الإذاعة - وتتلقفها الصحافة المنافسة، وتحاول الحصول على المزيد. وتسارع الإذاعات إلى التعليق. وهدف التسريب إطلاق بالونة اختبار لمعرفة رد فعل الصحافة، وتعليقات الرأي العام، وقد ينفي المتحدث باسم الحكومة أو الخزانة الخبر، أو يرفض التعليق، والنتيجة في النهاية تعديل السياسة المقترحة في ضوء ردود الفعل.

عند إعلان الميزانية تتحدى المعارضة الحكومة إذا عثرت على ثغرات، لكن فريق وزير المالية يكون قد أحكم الموازنة، وبالتالي تبحث الصحافة والمعارضة عن السلبيات كإنقاص وزير المالية مخصصات أصحاب المعاشات بأكثر من 800 جنيه في العام لتعويض نقص ضرائبي برفع الإعفاء الضريبي لذوي الدخول المحدودة، وهاجمته عناوين ورسوم كاريكاتير اليوم التالي «كسارق كيس نقود الجدة العجوز».

قارن ذلك مثلا بالمفاجآت السياسية التي يعلنها زعماء غوغائيون لم ينتخبهم أحد، كمفاجأة الكولونيل جمال عبد الناصر وزارتي التعليم العالي والمالية بإعلانه مجانية التعليم الجامعي دون بحث الأمر مقدما مع الجامعات والخزانة لتحديد مصدر ميزانية تعليم آلاف من طلاب لم تستوعبهم إمكانيات الجامعات عام 1962، ومن سيدفع ثمن شراء معدات جديدة، والمصدر البديل للمصروفات التي كان يدفعها الطلاب. والنتيجة تخريج أجيال جامعية بمستوى معرفي وتعليمي دون مستوى الشهادة الابتدائية في العهد الملكي، وعشرات من الحوادث المشابهة كتعيين آلاف الخريجين في وظائف لا تساهم في زيادة الدخل القومي مما أغرق مصر في الديون. أما برلمان (مجلس الشعب) ما بعد الثورة الذي غزاه الساسة الإسلاميون في انتخابات حرة، فليس فيه ورقة واحدة - ولو حتى على مظروف مستعمل - عن ميزانية أو حتى رقم أو اقتراح بمصدر الميزانية الذي يمكن النواب من تنفيذ أي من الوعود التي أطلقتها الحناجر العنترية من فوق المنابر.

بل حتى الذين يطرحون فكرة قرار برلماني بمنع بيع الغاز لإسرائيل لم يقدموا اقتراحا عن مصدر بديل لتعويض دخل الغاز بعد توقف بيعه.

الصحافة البريطانية ذكرت الشاكين من الميزانية، بأنهم انتخبوا الحكومة طواعية، وبدورنا نذكر الناخب المصري بالهدية التي اشتراها (بإرادته الحرة؟) من محل الانتخابات عندما تكاسل عن التأكد من مطابقة المعروض في الفترينة للمواصفات قبل أن يدفع للبائع الثمن.