ذكرياتي مع (جبل السكارا)

TT

أعترف أنني أغشم عباد الله في السواقة أو القيادة في كل المركبات التي تمشي على أربع أو اثنتين، ما عدا مركبة واحدة لا أستطيع أن أبوح بسرها، لا خوفا لكن رعبا، وحديثنا اليوم كله عن (السواقة).

ومن ذكرياتي (الخنفشارية) أذكر في ما أذكر أنني خرجت يوما من فناء المدرسة الثانوية في نهاية اليوم، ولمحت زميلا لي اسمه (تيسير) - ولا أدري هل ما زال هو على قيد الحياة، أم اتكل على الله معززا غير مكرم؟! كان تيسير واقفا أمام (الموترسكل) العائد له، وكنا وقتها نطلق عليه اسم (الدباب)، وكان ذلك الدباب مشغلا، و(بلقافتي) المعهودة وضعت كتبي جانبا وركبت فوقه كنوع من المزاح، وما إن أمسكت (بدركسونه) ولففته، إذا به ينطلق بي كالسهم، وكنت وقتها لأول مرة أركب دبابا، ولا أعرف كيف تكون قيادته، المهم أنني أخذت أتجاوز كل السيارات بسرعة صاروخية، ومن شدة خوفي كلما تشبثت بالدركسون ازدادت سرعته أكثر، وأتذكر أن كل من يشاهدني في الشوارع كان يصيح بي قائلا: يا مجنون، يا مجنون! وخطر على بالي عدة مرات أن أرمي بنفسي على الأرض، ولكنني كلما تذكرت الجروح والرضوض والكسور والموت جبنت أكثر، والمصيبة أنني لا أعرف كيف أطفئ هذه البلوى التي ورطت نفسي فيها.

ولأول مرة أعرف أنني حكيم عندما خرجت من حارة (قروي) نهائيا، وفي تلك الأيام كانت مدينة الطائف صغيرة، واتجهت رأسا إلى جبل يقال له: (جبل السكارا)، وعند سفحه ارتطمت بصخرة كبيرة، فانقذف الدباب بجهة وانقذفت أنا بجهة أخرى، وشج رأسي وقتها وتخلخلت بعض أسناني، والمؤلم أن من وصلوا إلى إنقاذي، الله لا يبارك فيهم، كانوا يتضاحكون وهم يضمدون جراحي قائلين: صحيح إنك عارف أين تتجه يا سكران!

وبعد هذه المقدمة التي لا داعي لها الآن، أدخل في الموضوع الذي أعجبني عن امرأة تفوقني بالقيادة والشجاعة و(الرجولة) كذلك، ويقال لها: (عيشة عرور)، وهي لمن لا يعرفها كانت أول امرأة تقود السيارة في الجزيرة العربية قبل أكثر من (50) سنة، وهي الآن على مشارف التسعين من عمرها المديد وهي قد ساقت سيارتها (الأوبل)، وكسبت ثقة الزبائن من أهل عدن، كما كان لها زبائن من البريطانيين من أيام الاستعمار الذين وثقوا بها لتنقلهم في مشاويرهم الخاصة وفي بعض مهماتهم الرسمية، وهي بدورها علمت نفسها، بالممارسة، لغة إنجليزية بسيطة، وقد سألها أحدهم قائلا: من علمك قيادة السيارة؟ فضحكت وقالت بصوتها الجهوري: علمني جارنا اليهودي، بسيارته، كنا في عدن نعيش في سلام ووئام مع اليهود والفرس والهنود وأهلها الطيبين، وحصلت على رخصة قيادة السيارة من شرطة المرور بعدما اجتزت الامتحان، ثم بعت كشك بيع السجائر والمثلجات الذي كنت أملكه، وزدت على المبلغ مدخرات، واشتريت سيارة (الأوبل). وتتابع: في البداية عارض أهلي عملي كسائقة تاكسي، لكنني أصررت وكسرت العادة وعملت في مهنة خاصة بالرجال، وخلال خمسين سنة في المهنة لم أرتكب أي مخالفة مرورية، بل كنت أحترم إشارات المرور وخطوط المشاة ولا أتحدث أثناء القيادة.

عن نفسي أقول: ما أكثر ما خالفت الإشارات، وما أكثر ما أخذت الغرامات! المؤلم أن (عيشة عرور) هذه كل ما تتمناه في هذه الدنيا الآن هو أن تحصل على (كرسي متحرك)، وعلى فكرة أنا تبرعت لها ولا فخر بذلك (الكرسي)، فهل هناك من (رَجلة) أو رجل شهم آخر يتبرع لها بأكثر من ذلك؟!

[email protected]