بابا شنودة: غريبا عشت في الدنيا

TT

كان البابا شنودة رجلا حكيما بحق، رجل دين مخلصا، وحظي بالاحترام والحب، لكونه غريبا على وجه الأرض، وهو المعنى الذي جاء في مزمور (119:19): «غريب أنا في الأرض لا تخف عني وصاياك».

بعبارة أخرى، كان جزءا من الفردوس المفقود الذي وجدناه في هذا العالم. كان يبني جسرا بين القلب والعقل.. قال الحواريون لعيسي عليه السلام: يا روح الله من نجالس؟ يقول المسيح عليه السلام: «منْ يُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ رُؤْيَتُهُ، ويَزِيدُ فِي عِلْمِكُمْ مَنْطِقُهُ، وَيُرَغِّبُكُمْ فِي الآخرة عَمَلُهُ».

كي أكون صادقا تماما، كان البابا شنودة أفضل مثال لاتباع نهج المسيح عليه السلام. كلما أقرأ مقالات البابا شنودة في جريدة «الأهرام»، أو أستمع إلى حديثه على شاشة التلفزيون، أستطيع أن أرى الجوهر الحقيقي للأديان؛ حقيقة أن الإسلام والمسيحية واليهودية جميعها تصب في معين واحد. طالما وجدت غذاء الفكر في كلماته. كان مثل ينبوع في الربيع، مياهه عذبة ورائحته عطرة، وكانت له عينان لامعتان، تحملان في أعماقهما مشاعر الألم والحزن. نشر مقالا غاية في الرقة في صحيفة «الأهرام»، كتب فيه:

«الإنسان الحكيم لا يترك الأحداث تمر عليه عابرة دون أن يستفيد منها. بل يحاول أن يأخذ من كل حدث درسًا. إن أحداث الحياة مدرسة عملية نتلقَّى فيها علوما عملية، إن كنا نتأمّلها في عُمق، ونحاول أن ندرك ما تحمله في طيَّاتها من دروس. هذا إن كنا نريد أن نتعلَّم..». («الأهرام» 20/4/2008).

عثرت على جوهر الإيمان والحكمة في كلماته. وكان البابا شنودة تابعا مخلصا للمسيح. أذكر أنه قال ذات مرة: هل تعلمون أن أقصر آية في الإنجيل وأقصر آية في القرآن متماثلتان في معنييهما؟

لا تنسوا أن كل آية أشبه بجسر. وعلينا أن نعبر تلك الجسور للوصول إلى وجهتنا المقصودة. توجد أقصر آية في الإنجيل في إنجيل يوحنا، إصحاح 11، آية 35: «بكى يسوع». وفي القرآن لدينا - لاحظوا أنني لم أقل لديك - آية قصيرة. وبينما يشرح ذلك، كانت عيناه الحنونتان تحملان ابتسامة وتشعان بريقا. أقصر آية في القرآن الكريم في سورة 55، آية 64: «مُدْهَامَّتَانِ»، أَي سَوْدَاوَانِ مِنْ شِدَّة الرِّي مِنْ الْميَاه، «فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَان» الزمخشري يقول: فوارتان بالماء.

هل تعلم أن الدموع هي سر نمائنا واكتمالنا؟ إن أصل الحياة هو الماء، الماء هو أصل آيتين، دموع البشر ودموع السماء. حينما كنت في المنفى، فكرت في هذه الظاهرة شديدة الأهمية في الحياة، الدموع!

أعتقد أن لغة القلب هي الدموع، قلوبنا تتحدث بهذه اللغة الفريدة من خلال أعيننا. إن العيون تعمل كمرآة للقلب، والدموع هي كلماته؛ كل قطرة دمع تذرف هي كلمة. من يمكنه قراءة لغة القلوب ومن يمكنه تفسير مغزى الدموع؟ في رأيي، ليست الآيتان المذكورتان – «بكى يسوع»، و«مدهامتان» - هما أقصر آيتين في الإنجيل والقرآن، إذ تنقلان رسالة في ضخامة المحيطات، محيطات الأرواح..

وادي النطرون هو وادٍ موجود في مصر. وفي الأدب المسيحي، عادة ما يعرف باسم «الإسقيط»، ويعتبر واحدا من أول ثلاثة مراكز للرهبان المسيحيين تقع في صحراء شمال غربي دلتا النيل. وفي الفترة من 1956 إلى 1962، آثر البابا شنودة العزلة وعاش في كهف يبعد بمسافة سبعة أميال عن الدير.

وخلال تلك السنوات، كرس وقته للتأمل والعبادة والزهد. ربما يكون رقم سبعة هو رمز الخلود.

ثانيا، اضطر للعودة إلى النطرون. كان ثمة خلاف لا ينسى بين البابا شنودة وأنور السادات. دخل البابا شنودة في جدالات مع الرئيس أنور السادات حول اتفاقيات كامب ديفيد ورد فعل الرئيس تجاه تنامي المد الإسلامي. وبعد سلسلة من المظاهرات التي آلت إلى اعتقال البابا شنودة، تم نفيه من قبل السادات وإرساله إلى صحراء وادي النطرون، وعاد بعد ثلاث سنوات من اغتيال السادات.

ثالثا، عاد إلى وادي النطرون كملاذه الأخير في العالم، عاد ليستريح الراحة الأبدية، لا كناسك أو منفي في هذه المرة.

يتضح موقفه تجاه إسرائيل من كلماته: من وجهة النظر القومية العربية، يجب ألا نتجاهل إخواننا الفلسطينيين وإخوتنا العرب بتطبيع علاقاتنا مع إسرائيل. ومن منظور الكنيسة، يخدع الأقباط الذين يذهبون للقدس الكنيسة في حالة «دير السلطان»، الذي ترفض إسرائيل منحه للأقباط.

كرجل حكيم، يعيش في قلوبنا وعقولنا، والآن يعتبر جزءا من الثقافة والروحانيات المصرية. إنه جزء لا يتجزأ من مصر.

من يمكن أن ينسى تلك الكلمات الحكيمة؟

1) إن مصر ليست وطنا نعيش فيه ولكنها وطن يعيش فينا.

2) ازرع الحب في الأرض تصبح الأرض سماء.

3) انزع الحب من الأرض تصبح الأرض قبرا.

4) الخادم الروحي هو أنجيل متجسد أو كنيسة متحركة.

5) الإنسان البار يشتهى الموت مثلما يشتهى الحياة.

6) الإنسان القوي في فكره الواثق من قوة منطقه ودفاعه يتكلم في هدوء بدافع من الثقة، أما الضعيف فإذا فقد المنطق والرأي تثور أعصابه ويعلو صوته.

يبدو لي أن المسؤولية الرئيسية التي يجب أن يضطلع بها رجال الدين قاطبة - مسلمون ومسيحيون، بل ويهود - هي أن يكونوا أتباعا مخلصين لأنبيائهم. حينما نلتقي بهم، يجب أن نتذكر الأنبياء، لا الشيطان. يجب أن نتذكر الفردوس والسلام، لا النار والعنف.

يجب أن يكونوا رموزا للإيمان، لا التشريع. ولسوء الحظ، أحيانا ما لا يترك التشريع مساحة للإيمان. ولهذا، اعتقل المسيح من قبل المفتش الأكبر في رواية «الإخوة كرامازوف» لدوستويفسكي.

اقرأ الإصحاح الخامس من الكتاب الخامس، وسوف تستشعر مرارة التناقض بين الإيمان والتشريع. كان البابا شنودة شاعرا، وقال الشيخ يوسف القرضاوي، نحتاج إلى: تصويف السلفية وتسليف الصوفية.

أعتقد أن الأدب، وخاصة القصائد، يلعب دورا كبيرا في تحقيق هذا الهدف الرئيسي. إن قصائد الباب شنودة الفريدة تعد رمزا للحب والتوحيد فهي تشيد جسرا رائعا بين القلب والعقل.

يا إلهي أعمق الحب هواك

يا إلهي لي اشتهاء أن أراك

أنت ملء العقل والقلب معا

ليس في غربة العمر سواك.

الآن، وصلت قطرة الدموع إلى المحيط اللانهائي.