هل يمكن السيطرة على ديون أميركا؟

TT

الولايات المتحدة دون شك دولة استثنائية، فهي الدولة الوحيدة التي تمكنت من مراكمة ثروة ضخمة وجذب الكثير من المهاجرين على مدى المائتين وخمسين عاما الماضية. ولم تقدم دولة أخرى سواها هذا السجل المشرف من الإبداع والابتكار والإنتاج.

ولم تحصل حكومة في أي مكان على هذا القدر الهائل من القروض مثلما فعلت الولايات المتحدة، حيث من المتوقع أن يزداد حجم الديون الفيدرالية ليصل إلى نحو 73% من إجمالي الناتج المحلي خلال العام الحالي. وبلغ حجم الدين في بداية الأسبوع الحالي 10.8 تريليون دولار، ويملك نصفه أجانب. وتصدر وزارة المالية الأميركية إحصاءات الديون يوميا بدقة. ولا يمكن لهذا المستوى من الديون أن يستمر إلى أجل غير مسمى، لكن طبقا للسياسات الحالية، من المتوقع أن تزداد الديون بلا حدود باعتبارها جزءا من الاقتصاد. ومن الضروري السيطرة على الديون بطريقة معقولة وحكيمة وإلا سيتعرض رخاؤنا إلى خطر حقيقي. وفي معرض بحثنا عن طريقة «معقولة» لتحقيق إصلاح مالي في الولايات المتحدة، هل ينبغي أن نتجه إلى زيادة أم خفض عائدات الضرائب؟

أصدر النائب بول رايان، عن ولاية ويسكنسن رئيس لجنة الميزانية في مجلس النواب، يوم الثلاثاء ميزانية أكد أنها تمثل الطريق الصحيح نحو المسؤولية المالية. ومن أفكار رايان الأساسية خفض الضرائب على الأفراد بجانب خفض الضرائب على الشركات.

ولم يصدر مكتب الميزانية في الكونغرس تحليلا رسميا بشأن هذا الاقتراح، لكن استنادا إلى التفاصيل المتاحة وتصريحات رايان، من المتوقع أن تنخفض عائدات الحكومة الفيدرالية بشكل كبير مقارنة بالرقم الذي كان مفترضا، وهو 4.3 تريليون دولار على مدى 10 سنوات. وهل يعد خفض العائدات لمواجهة عجز الميزانية الضخم دليلا على أن الشعب الأميركي شعب استثنائي قادر على القيام بأمور عصية على الآخرين؟ أم أن هذا يعد بمثابة مجموعة أخرى من الحماقات المالية الواضحة إلى حد كبير في إطار فكر أدى خلال العقود الأخيرة إلى تقويض المسؤولية المالية الاستثنائية التي أسهمت في بناء عظمة هذه الأمة؟ وتبدو خطة رايان أقرب إلى الحماقة لثلاثة أسباب:

الأول هو أن أكثر المنتمين إلى تيار اليمين يرون أن السبب الرئيسي وراء العجز الحالي في الميزانية وارتفاع مستوى الديون هو زيادة الإنفاق. صحيح أن الانتقال من فائض الميزانية في نهاية التسعينات إلى عجز الميزانية الذي نشهده هذه الأيام شهد بعض الزيادات الملحوظة في معدلات الإنفاق، كان بعضها على الحروب التي انخرطت فيها الولايات المتحدة في الخارج والبعض الآخر على خطة العقاقير التي أضيفت إلى نظام الرعاية الصحية خلال فترة إدارة جورج بوش الابن للبلاد.

مع ذلك لقد ساهمنا في تآكل عائدات الحكومة الفيدرالية من خلال ما يعرف بـ«قانون بوش لخفض الضرائب» عام 2001 و2003. والتي وافق عليها الرئيس أوباما على تجديد العمل به عام 2010. ومن ثم انهار نظامنا المالي محدثا أسوأ انكماش منذ الثلاثينات. ولا تستطيع أي دولة تحصيل عائدات كبيرة في ظل هذا التراجع.

ولا توضح خطة رايان السبب وراء تراجع العائدات أو تقدم حلا يسهم في ثباتها. كذلك لم يأت رايان على ذكر كيف تؤدي مخاطر القطاع المالي إلى تحمل الحكومة الفيدرالية التزامات ضخمة، بل على العكس من ذلك، يريد رايان جعل خفض الضرائب الذي أقره بوش خلال فترة ولايته مستمرا، بل والقيام بالمزيد.

السبب الثاني هو تفنيد رايان للاعتقاد بأن نتيجة اقتراحاته هي انخفاض العائدات، مؤكدا أنها ستدفع عجلة النمو الاقتصادي. وأوضح في تعليقه يوم الثلاثاء في مجلة «وول ستريت جورنال»: «كلما كانت وتيرة النمو الاقتصادي أسرع، زادت عائدات الحكومة من أجل تنفيذ أولويات البدء في تسديد الديون».

لقد كانت مثل هذه الأطروحات تساق عندما أقر بوش خفض الضرائب، بل وفي بداية فترة الثمانينات عند إقرار ريغان لخفض الضرائب. للأسف تبين وجود مبالغات كبيرة في كل هذه الأحداث في التاريخ الأميركي الحديث، فقد كان على ريغان إلغاء بعض أشكال خفض الضرائب بالتحديد نظرا لتراجع العائدات. وفي منتصف الثمانينات كانت هناك مخاوف مشروعة عبر عنها رئيس مصرف الاحتياطي الفيدرالي، بول فولكر، وعضو مجلس الشيوخ الجمهوري عن ولاية كنساس، بوب دول، وآخرون من خروج عجز الميزانية عن السيطرة. ومنذ خمسة وعشرين عاما اهتم عدد من الجمهوريين النافذين بعجز الميزانية وأدركوا أهمية عائدات الضرائب لتحقيق التوازن بين الاقتراض والإنفاق والادخار.

السبب الثالث هو وعود رايان بالحد من الإنفاق الحكومي والتأكيد بأن خططه الرامية إلى ذلك ستعوض أي خسارة في العائدات ناتجة عن خفض الضرائب. ويتضمن هذا خفضا كبيرا في برنامج الرعاية الصحية ضمن برامج أخرى، فضلا عن الاستثمارات في التعليم والبنية التحتية، لكنه لا يشمل الإنفاق العسكري على ما يبدو. رغم ذلك، هذه البنود لا تذكر مقارنة بإجمالي نفقات الحكومة الفيدرالية، التي تخصص أكثرها للجيش والتأمين الاجتماعي والرعاية الصحية. وسيكون خفض الإنفاق السحري الذي يتحدث عنه رايان في الرعاية الصحية، لكن مثل هذا السحر غير موجود ولن يوجد على الأرجح.

وقام مكتب الميزانية في الكونغرس بتقييم مقترحات رايان الرامية إلى إزاحة عبء الرعاية الصحية عن كاهل ميزانية الحكومة الفيدرالية العام الماضي، مشيرا إلى أنه سيؤدي على الأرجح إلى زيادة الإنفاق على الرعاية الصحية كنسبة من إجمالي الناتج المحلي. ولم يدخل رايان العام الحالي سوى تعديلات طفيفة على المقترح الذي قدمه العام الماضي، لذا من المتوقع أن يرفض للأسباب نفسها. ويرى مكتب الميزانية في الكونغرس، وهو غير المنحاز لأي حزب، أن إجمالي تكلفة الرعاية الصحية للأسر والشركات الأميركية سيرتفع ولن ينخفض نتيجة تخلي الحكومة عن الإنفاق على الرعاية الصحية. ورغم أن الحكومة مشتر أساسي ولديها قوة في السوق، رغم إمكانية استغلال ذلك على نحو أكبر، لا تتمتع الأسر والشركات بأي ميزة تتعلق بالأسعار. والجدير بالذكر أنني في هيئة المستشارين الاقتصاديين في مكتب الميزانية في الكونغرس، لكنني لم أشارك في أي تحليل أعدته عن الميزانية ولا أعلم شيئا عن كيفية تقييمها للمقترحات الخاصة بإجراء إصلاحات في نظام الرعاية الصحية.

يمكن القول بإيجاز: إن الميزانية المقترحة من قبل رايان تتضمن خفض الضرائب، خاصة على الأثرياء، وخفض الإنفاق من خلال تحويل الأموال المخصصة للإنفاق على الرعاية الصحية إلى القطاع الخاص، وهو آخر شيء يحتاجه أصحاب المشروعات الرائدة والشركات الكبيرة. وسيزيد الإنفاق على الرعاية الصحية، كنسبة مئوية، من الاقتصاد بمرور الوقت مقارنة بما كان سيحدث في إطار النظام الحالي. ومن المرجح أن تؤدي الميزانية التي اقترحها رايان إلى زيادة عجز الميزانية والديون إلى حد أكبر مما يتوقع. ويعتمد رايان، من خلال منح خفض الضرائب الأولوية والوعد بخفض الإنفاق بالتدريج، حيث لن يتم تنفيذ التغيرات في نظام الرعاية الصحية حتى عام 2023، على قدرة الحكومة الفيدرالية على اقتراض مبالغ كبيرة إلى أجل غير مسمى.

لقد وجدت الولايات المتحدة أخيرا موضعها المالي بعد صراع عصيب من أجل تأسيس قطاع مالي قوي أثناء وعقب حرب الاستقلال. وخلال العام الحالي يمر على نقطة التحول المالية هذه مائتي عام، فقد حدثت نقطة التحول المالية خلال حرب عام 1812 والتي أثمرت في النهاية عن توافق سياسي على تحقيق التوازن بين الاقتراض والإنفاق والادخار بما في ذلك الاتفاق على الحاجة إلى تحقيق توازن بين نفقات الحكومة والضرائب. لقد كانت الولايات المتحدة جديرة بما وصلت إليه من مكانة استحقتها منذ وقت طويل تتمثل في التوازن بين الاقتراض والإنفاق والادخار. وتمنح قدرة الولايات المتحدة على الاقتراض اليوم ما يصلح أن يكون ميزة لها. وعندما يتراجع الاقتصاد بشكل حاد، على سبيل المثال نتيجة انهيار بعض المصارف الكبرى بسبب ممارساتها، من الأفضل تجنب فرض سياسة التقشف المالي، ويمكن أن نسأل الأوروبيين في هذا الشأن. مع ذلك أصبحت رغبتنا في الاقتراض نقطة ضعف، فنحن بحاجة إلى السيطرة على عجز الميزانية والديون.

* خدمة «واشنطن بوست»

* سيمون جونسون أستاذ المشروعات

في كلية سلون للإدارة والمشارك في تأليف

كتاب «حريق البيت الأبيض: الآباء المؤسسون»