درس البرتغال لـ«الربيع العربي»

TT

في الساعة الثانية عشرة وخمس وعشرين دقيقة فجرا، بثت إذاعة لشبونة أغنية «غرناطة.. أيتها المدينة السمراء»، وهي أغنية كانت ممنوعة أيام حكم الديكتاتور أنتونيو سالازار (1932 - 1974) لكونها مفضلة لدى الشيوعيين. كانت تلك إشارة البدء لبعض عناصر الجيش للقيام بانقلاب على النظام، وفي غضون يوم واحد من مساء 25 أبريل (نيسان) 1974 استسلمت حكومة مارسيلو كايتانو. فرح الناس ونزلوا للشوارع ابتهاجا بسقوط نظام ديكتاتوري دام أكثر من خمسة عقود، ولكن لم يدر بخلد منفذي الانقلاب أن حركتهم سوف تقود إلى ما يسميه بعض مؤرخي السياسة «الموجة الثالثة» للديمقراطية، والتي ستستمر أعواما، لتشمل إسبانيا والبرازيل وقرابة ثلاثين دولة في أوروبا وأميركا اللاتينية. لم يكن الانتقال السلمي للسلطة مضمونا، فما إن سقط النظام حتى انقسمت وحدات من الجيش البرتغالي بحسب توجهاتها الأيديولوجية من اليمين إلى اليسار، ناهيك عن فلول النظام السابق.

ظلت البرتغال تغلي لأكثر من ثمانية عشر شهرا، حيث تعاقبت ست حكومات انتقالية عليها، وخرج المزارعون والعمال والعسكر في إضرابات متتالية نتيجة للظروف الاقتصادية المتفاقمة، وقد بدا حينها أن الحرب الأهلية ما بين الشمال المحافظ، والجنوب المتأثر بالدعاوى الاشتراكية اليسارية قد تندلع في أي لحظة. في تلك المرحلة الصعبة التقى هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركية بنظيره البرتغالي ماريو سواريز في واشنطن، محذرا إياه من أن البرتغال تمر بظروف مشابهة للثورة البلشفية في روسيا 1917، ومن التباطؤ في مواجهة الشيوعيين قائلا: «أنت تشبه كرانسكي - رئيس الحكومة الانتقالية الروسية بعد الثورة - أصدق إخلاصك، ولكنك ساذج». رد سواريز بغضب: «أنا لا أريد أن أكون كرانسكي». أجابه كيسنجر: «وحتى كرانسكي لم يكن يريد أن يكون كرانسكي». بخلاف كل التوقعات السائدة في أميركا وأوروبا لم يتكرر نموذج الثورة الروسية، بل تحولت البرتغال إلى دولة ديمقراطية، ويعود الفضل في ذلك إلى الجنرال أنتونيو إينس الذي قاد حملة عسكرية لمواجهة الضباط الشيوعيين، منهيا بذلك أي تهديد عسكري للديمقراطية الوليدة، ولينتخب بعد ذلك رئيسا للدولة.

لا شك أن الذين راقبوا أحداث الانتفاضات الشعبية التي عمت العالم العربي منذ يناير (كانون الثاني) 2011 يجدون تشابها كبيرا بين ما حدث في البرتغال ودول أخرى مشابهة في اللغة والثقافة، وما حدث في بلدان «الربيع العربي». صحيح أن لكل تجربة خصوصيتها، ولكن هناك نقاط تشابه كثيرة، فتونس تشبه إلى حد كبير البرتغال في 1974، ومصر قريبة من الحالة البرازيلية في 1985، ويمكن القول أن اليمن يشبه كولومبيا نهاية التسعينات، فيما ليبيا مزيج من فنزويلا شافيز وأوغندا عيدي أمين. أما سوريا فهي تشبه إلى حد كبير كرواتيا بعد انهيار يوغسلافيا. ليس الغرض هنا هو إسقاط تلك التجارب على بلدان عربية محددة، ولكن من المفيد الاطلاع على تجارب دول مرت بظروف مشابهة. اليوم يدور سجال حاد في كل بلد من بلدان «الربيع العربي» ما بين أولئك الذين يؤيدون الانتقال السلمي المدني القائم على مبدأ «الغفران الاجتماعي» للعهد الماضي، وما بين أولئك الذين يدعون إلى استكمال الحالة الثورية الانتقامية، التي تقود إلى هدم النظام القائم واستحداث نظام ثوري جديد قائم على الاستبداد الشعبوي.

هذا السجال ليس جديدا، فكثير من الدول التي مرت بتحولات سياسية ثورية جربت سيناريوهات مختلفة، بعضها انتهى إلى نماذج ديمقراطية، وبعض آخر انتهى إلى نظم شمولية قمعية أسوأ مما كانت عليه من قبل. لا شك أن المنطقة ما تزال تمر بهذه المرحلة الانتقالية والتي قد تستمر أعواما، هناك دول قطعت شوطا جيدا نحو الانتقال السلمي مثل تونس، وهناك أخرى تتقدم ببطء، ولكن يلفها القلق والصدام بين القوى السياسية والجيش مثل مصر، ولدينا دول أخرى لم تتقدم مثل ليبيا واليمن، ولكنها لم تتحول - أيضا - نحو الحرب الأهلية بعد، فيما تبدو سوريا التي طالت الأزمة فيها متجهة إلى حرب أهلية ما لم تتوفر ضمانات داخلية ودولية لتحقيق التوازن الطائفي والإثني في حال سقط نظام الرئيس الأسد، إذ إن كل يوم يستمر فيه هذا النظام الدموي، فإنه يعمل على توسيع الفجوة وحرق النسيج الاجتماعي بين مكونات الوطن السوري. في كتابه «الموجة الثالثة: الدمقرطة نهاية القرن العشرين»، يشير صموئيل هنتنغتون (1991) إلى أن أجزاء كثيرة من العالم مرت بثلاث موجات للديمقراطية أعقب كل واحدة منها ارتداد إلى الحكم الشمولي: الموجة الأولى (1828 - 1926) حيث قادت الحروب والثورات إلى سقوط إمبراطوريات مهمة مثل الإمبراطورية العثمانية، ثم أعقبها حالة ارتداد بين عامي 1922 و1942 جسدها صعود الفاشية والنازية. الموجة الثانية (1942 - 1962) جسدها تحرير أوروبا الغربية وقيام نظم ديمقراطية، وظهور حركات وطنية استقلالية في الشرق الأوسط وأفريقيا وأميركا اللاتينية، ولكن بين عامي 1958 و1975 شهدت تلك الدول سلسلة من الانقلابات العسكرية التي قضت على المؤسسات الديمقراطية كالانتخابات البرلمانية. الموجة الثالثة (1974 - 1991) شملت أكثر من ثلاثين دولة تحولت إلى الديمقراطية أو اتجهت، على الأقل، نحو مشروعات إصلاح ليبرالية. هذا التقسيم التاريخي محل خلاف ولا شك، لأن كل دولة مرت بظروف مختلفة. ففي الوقت الذي كانت فيه الكويت مثلا تمر بتحول ديمقراطي في الستينات، كانت دولة مثل ليبيا تشهد انقلابا عسكريا ثوريا بقيادة القذافي ورفاقه، أي إن ليبيا كانت تعيش حالة ارتداد. بيد أن أطروحة هنتنغتون لم تكن معنية فقط بالتقسيم التاريخي، ولكن بدراسة شروط وظروف العملية الانتقالية في الدول التي تشهد تغييرا تاريخيا في بنية نظام الحكم وإدارة الدولة. لعل أبرز ما في أطروحة هنتنغتون هو التمييز بين ثلاثة عوائق أمام التحول الديمقراطي، ودورها في عملية الارتداد عن الديمقراطية كالنموذج الإيراني الثوري مثلا. يقول هنتنغتون: «في الصين، كانت العقبات التي تحول دون التحول الديمقراطي في عام 1990 سياسية واقتصادية، وثقافية. أما في أفريقيا، فقد كان العائق الاقتصادي هو الأبرز. أما في البلدان النامية في شرق آسيا، وفي كثير من البلدان الإسلامية، فكانت العوائق ثقافية في المقام الأول».

مشكلة المبشرين بـ«الربيع العربي» في المنطقة هي أنهم يريدون ركوب موجة الاحتجاجات الشعبية وحرق المراحل من دون استيعاب للعوائق السياسية، والاقتصادية، والثقافية أمام التغيير الديمقراطي، وحجتهم أن الإصلاح التدريجي لم ينجح في تحقيق شيء واستخدمته الأنظمة كشعار للتغطية على غياب مشروعيتها. يمكن تقسيم دعاة «الربيع العربي» إلى فريقين: الأول من الإسلاميين بشتى أطيافهم من إخوان وسلفيين، أو من المستقلين الذين ينشدون مشروعا شخصيا. أما الفريق الآخر فأغلبهم من اليسار الليبرالي الذين يرفعون شعار «ناشط» حقوقي أو إصلاحي، وهؤلاء أقرب إلى تيار «معاداة المؤسساتية» (anti - establishment) أكثر من كونهم مصلحين اجتماعيين. الفرق بين الطرفين هو أن الإسلاميين يملكون الشعبية استنادا للشعار الديني في مجتمعاتهم المحافظة، وهم كذلك أكثر قربا من الشارع وعملا على الأرض لتقديم الخدمات التطوعية للجمهور. أما اليسار الليبرالي في أكثر من بلد عربي فهو غارق في تصور طوباوي (مثالي) للتغيير، وهو يتحالف اليوم مع الأحزاب والشخصيات الإسلاموية مرحليا تحت ذريعة «التغيير»، وهو غير مدرك - أو مستوعب - لشروط الانتقال التدريجي المدني والسلمي لأنظمتهم، ولأجل هذا فإن البعض منهم لا يعدو أن يكونوا إلا «كرانسكيي» المرحلة. يجادل البعض بأن التخويف من حالة الفوضى التي أعقبت «الربيع العربي» ليس إلا ركونا للماضي، وهم يبررون ذلك بدعوى أن كل ثورة لا بد وأن تمر بمرحلة اضطراب وفوضى، ولكن من قال إن التغيير المدني السلمي يجب أن يتحول إلى ثورة، فالنموذج البرتغالي الذي تعرضنا له لم تدم فيه الفوضى، بل سعى رجال تلك المرحلة إلى تجنيب بلدهم حالة الارتداد بمواجهة القوى الثورية، وتغليب مصلحة الوطن على خيالات وأحلام الثوريين. إن أي ناشط حقوقي أو سياسي في المظاهرات أو على مواقع التواصل الاجتماعي، يجب أن يسأل نفسه: هل من الضروري أن تمر البلد بحالة فوضى حتى يتحقق النموذج الديمقراطي. هناك بالطبع أنظمة ديكتاتورية وعنيفة، ومن الطبيعي أن يقف الناس بوجه الظلم والعنف، ولكن في البلدان التي تمتلك استقرارا سياسيا واقتصاديا، فإن دعاة الإصلاح يجب أن يعملوا على تطوير أنظمتهم وإصلاح ثقافتهم، لا أن يعمدوا إلى القفز نحو المجهول، فخلف كل موجة كما ينبهنا هنتنغتون، هناك حالة ارتداد عن القيم الديمقراطية، و«الربيع العربي» ليس استثناء.

قال المؤرخ الروماني تاكيتوس ذات مرة: «إن أفضل يوم بعد رحيل الإمبراطور السيئ هو اليوم الأول».