سوريا: من سيدفع الثمن؟

TT

هناك ثمن سيدفعه، بلا أدنى شك، أحد طرفي الصراع في سوريا: النظام أو الشعب، بل إن سؤال الأزمة يدور بكامله حول نقطة رئيسية يلخصها السؤال الرئيسي التالي: إذا كان الشعب قد أرغم على دفع أثمان باهظة جدا من حريته وأمنه ومصالحه ووعيه... إلخ طيلة قرابة نصف قرن لم يرحمه نظامه خلال هذه المدة ولو لحظة واحدة، فهل يجوز أن يبقى هو الطرف الذي سيستمر في الدفع، بقوة العنف العاري والأعمى الذي يمارسه ضده منذ عام كامل نظام يرى فيه شعبا خائنا ويتهمه بالتآمر على وطنه، لا بد من معاقبته على مطالبته بما أخذه منذ انقلاب الثامن من مارس (آذار) عام 1963 منه: حريته وحقوقه؟ أم أن النظام نفسه هو الذي سيدفع من الآن فصاعدا ثمن ما يجري، وهو الذي يجب أن يقر إقرارا صريحا بحقوق الشعب وحريته، وبإفلاس نمط السياسة التي اعتمدها، والتنظيمات التي أقامها ورعاها، لتكون البديل للشعب السوري الثائر: شعب الحضارة والتاريخ والفكر والعمل؟

لا مبالغة في القول: إن النظام السوري مبني بطريقة هدفها الوحيد هو استنزاف وإضعاف وإنهاك المجتمع السوري، وإنه نظام أخذ من السوريين كل عوامل قوتهم، وراكمها في ذاته أو وزعها على زبانيته، لكنه حرم السوري، في جميع الأحوال والظروف، من حقه في أن يكون مواطنا حرا وكريما، ومسخه وحوله إلى كائن يسهل التلاعب بمصيره دون أن يبدي أي مقاومة، علما بأن مصير المجتمع لم يكن أحسن من مصير الفرد، فقد انتهبت ثروته، وأخذ منه القسم الأكبر من عوائد عمله، وحرم من حقه في معرفة شؤونه ومن المشاركة في تقريرها، وكمل باعتباره مجموعة أجزاء كتب عليها العيش بعضها مع بعض، وليس شعبا واحدا هو أصل السيادة الوطنية والشرعية السياسية، حتى قيل بكل صراحة: إن الشعب ليس شيئا يستحق الذكر في الحسابات السياسية العليا، ما دام النظام ينتج نفسه من رأسه: من القيادة. بل إن أحد كبار مسؤولي العسكر قال ذات مرة: إن كل ما وصل إلى سوريا من مساعدات جاء بفضل ومن أجل القيادة، واستدل على صحة ما يقول بفكرة أن سوريا كانت موجودة دوما، فلم يساعدها أحد إلا بعد تولي الرئيس حافظ الأسد السلطة. ليس الشعب واحدا أو موحدا، بل هو طوائف وشيع ومزق وتجمعات مجبرة على التعايش... إلخ، مع أنه ليس شعبا وليس موحدا، بل هو كتلة تناقضات وخلافات من محاسنها أنه يمكن استغلالها لتوطيد السلطة، وتزايد الهوة التي تفصلها عنه، والتي تحرص القيادة على تعميقها باطراد، لأنها أفضل ضامن لاستمرار سلطتها في استنزاف المجتمع، ولزيادة قوتها وزيادة ضعفه.

أخيرا، وبعد سقوط الجولان تحت الاحتلال دون مقاومة، لم ير النظام في هذه الكارثة الوطنية الخطيرة المنطويات والمضامين، التي كشفت حقيقة رهاناته وبينت كم هو عاجز عن إنجاز أي مشروع لصالح العرب والسوريين، غير عامل إضافي يعزز قبضته على رقاب السوريين، فاستخدم ذريعة التحرير من أجل ضبط وتدجين الحياة العامة، والإمعان في إخراج المواطنات والمواطنين من الشأن العام، وفي تغريبهم عن أمورهم، ووضعهم في حال احتجاز وعجز دائمين.

هذا الثمن الفادح، مضافا إلى اليأس من حدوث أي إصلاح أو تغيير، لعب دورا هائلا في انفجار السوريين، وربما كان أحد أهم الأسباب التي تفسر إصرارهم على استعادة حريتهم وحقوقهم، لأن استعادتها هي في نظرهم – وبحق - نقطة البداية في أي مشروع خاص ببلدهم ومجتمعهم، وبهم كأفراد مظلومين، لم يعودوا قادرين على الصبر والصمت، ولم يعد لديهم ما يخسرونه غير وجودهم الجسدي، الذي لم يعد وجودا فاعلا إلا في أضيق الحدود وبأكثر معاني الكلمة برانية وتهافتا.

هل بقي لدى السوريين ما يدفعونه، أم أنهم فقدوا كل شيء لذلك خرجوا يريدون استعادة ما فقدوه؟ أعتقد أنه لم يعد لدى السوري العادي أي شيء يخسره، بعد أن أخذ النظام كل شيء منه، وشرع يموت اليوم تحت الرصاص وفي الشوارع كي يثبت حقه في التوقف عن الدفع واسترداد ما سلب منه. ذلك يعني أن النظام هو الذي سيدفع من الثورة فصاعدا، وأن هذا لو كان مقتنعا بأنه هو الذي يجب أن يدفع لما استخدم حلا أمنيا ليس غير استكمال عنيف لسياسات تدفيع المجتمع والدولة أثمانا فادحة من أجل استمرار نمطه الحالي بكل ما هو عليه من أنانية وفساد وظلم وعنف واحتقار للشعب ومعاداة للسوريات والسوريين.

وللعلم، فإن صمود الشعب والثورة لا معنى لهما غير أمر واحد هو أنه قد حان زمن إجبار النظام على الدفع بقوة المواطن المظلوم، بعد أن استحال إقناعه بضرورته طيلة قرابة أربعين عاما كان يصر خلالها على أنه خير النظم وأكملها، وأنه ليس بحاجة إلى أي شكل من الإصلاح أو التغيير.

أما الأساس في الدفع فيرجع إلى حقيقة جوهرية هي أن النظام السوري الحالي لم يعد مرجعية مقبولة لدى أحد من السوريين، وأن استمراره سينتج ثورة بعد أخرى، إلى أن تتم الإطاحة به، مهما كانت التضحيات والآلام التي ستترتب على ذلك. لم يعد النظام مرجعية مقبولة لدى السوريات والسوريين، بل إنه لم يعد مقبولا لدى قسم كبير من البعثيين وأنصار السلطة، الذين يعلنون بدورهم انفكاكهم المتزايد عن نمط السلطة القائم، ويدينون فساده وقمعه وغربته عن البلاد والعباد، ويتطلعون إلى إصلاحه بطريقة تؤدي إلى تغيير جوانب مهمة ورئيسية منه. والنتيجة: إذا كان هدف الحل الأمني المحافظة على النظام في أكثر أشكاله قربا من نمطه الراهن، فإن هذا الحل فاشل لا محالة، لأنه لن يضع حدا لمطالبة المواطنين بزوال النظام، وبجعله الجهة التي ستدفع ثمن ما ارتكبته من أخطاء في أهم المسائل التي تنهض بها ومن خلالها الشعوب والدول، ويتوقف عليها تقدم وعيش من ينتمون إليها.

ليس هناك ما هو أكثر مجافاة للعقل والمصلحة الوطنية من الحل الأمني الذي اعتمده النظام في معالجة أزمة لا تحل بالأمن والعنف، وليس هناك من وهم أكبر وأخطر من وهم يوحي لأهل السلطة بأن حلهم الأمني يستطيع أن يجنبهم دفع ثمن الأزمة: وأن يجبر الشعب على مواصلة الدفع، مع أن وقائع الصراع تقول عكس ذلك تماما، والدليل: عجز النظام عن وقف التمرد المجتمعي الكبير وعن إخراج المواطنات والمواطنين من الشارع.

سيدفع النظام ثمن ما فعلته يداه في سوريا. هذه حقيقة تؤكدها نظرة عالمية عامة إليه، تشمل حتى مؤيديه من الروس والصينيين والإيرانيين، ترى فيه نظاما صار من المحال استمراره ودخل في مرحلة جعلته انتقاليا بمعنى الكلمة، فلا يفكر هؤلاء بغير بديله، الذي يبدو كمعضلة عويصة يصعب حلها، تطرح عليهم تحديات صعبة، سببها الرئيس استحالة بقاء النظام السوري على حاله، وحتمية وصوله إلى لحظة لا مهرب منها، سيتعين فيها الثمن الذي سيدفعه، في واقع داخلي أفقده جميع مصادر ومظاهر شرعيته، وعربي قطع معه بصورة حاسمة، ودولي لم تعد تربطه معه غير فكرة رئيسية هي أنه صار عبئا عليه!