الدين لله والوطن للجميع.. عن «وثيقة إخوان سوريا»

TT

لاقت وثيقة «عهد وميثاق» التي أعلنتها جماعة الإخوان المسلمين السوريين ارتياحا كبيرا في مختلف الأوساط بعد أن حسمت خيار الجماعة بمجتمع المواطنة وبدولة مدنية يتساوى فيها الجميع رجالا ونساء وعلى اختلاف أعراقهم ودياناتهم ومذاهبهم واتجاهاتهم، قاطعة التأويلات المشككة حول مستقبل الأقليات، وداعية لإرساء علاقة وطنية معاصرة وآمنة بين مكونات المجتمع السوري من دون تمييز أو تفريق، والالتزام بمبادئ حقوق الإنسان وبدستور يضمن الحريات ويكرس دولة ديمقراطية تعددية تداولية يسودها القانون، لا مكان فيها للأحقاد والعنف والانتقام.

وما يعطي هذه الوثيقة أهمية متميزة وقيمة خاصة:

أولا: أنها جاءت استكمالا لمراجعات نقدية عديدة، فكرية وسياسية، أجراها الإخوان المسلمون خلال السنوات العشر الأخيرة، بدأت بموجز المشروع السياسي لسوريا المستقبل، ثم ما يعزز مصداقية هذه الوثيقة أنها أعلنت في أجواء ثورات شعبية لها وجه إسلامي واضح، يشجع عادة جماعات الإسلام السياسي على الاستئثار والاستفراد، ناهيكم عن أنها تعلن في مناخ يميل نحو الاعتدال الديني ويخلص يوما بعد يوم إلى تحديد سمات تيار الإسلام السياسي القابل للحياة، على قاعدة فشل الأساليب العنيفة في تحقيق نتائج ملموسة لتعديل توازنات القوى وعجز مشروع الدولة الإسلامية عن قيادة المجتمعات وتلبية احتياجاتها الحديثة، وتكفي هنا المقارنة بين الأزمات المتراكمة التي وصلت إليها إيران والسودان والصومال وغزة وغيرها، وبين نجاح الخيار الإسلامي التركي في قيادة دولة علمانية، وهو الخيار الذي بدأ يحفر عميقا في وجدان المسلمين ويغذي نمو تيارات على صورته ومثاله.

ثانيا: كونها وثيقة خالية من أي التباسات أو اجتزاء للمسألة الديمقراطية كنظام حكم، من دون أي محاولة لخلق مقارنة وتعارض بينها وبين الشورى مثلا، بخلاف ما عرف عند تيارات إسلامية دأبت على الاستقواء باجتهادات خاصة في تفسير «وأمرهم شورى بينهم» للالتفاف على بعض الاستحقاقات الديمقراطية، والأهم أنها تجاوزت الدستور السوري وأظهرت الاستعداد لقبول من يحتل موقع مسؤولية حتى في أعلى الهرم السلطوي، أيا كان جنسه أو دينه.

ثالثا: من التجربة العيانية السورية يجب الاعتراف بأن الإخوان السوريين يملكون بالمقارنة مع غيرهم ماضيا ديمقراطيا، فخلال الفترتين الديمقراطيتين القصيرتين الوحيدتين اللتين عرفتهما سوريا - ما قبل الوحدة مع مصر أعوام 1954 - 1958، ثم أقل من عامين تليا الانفصال 1961 - 1963 - شاركت هذه الجماعة في العملية الديمقراطية والانتخابات النيابية واحترمت نتائجها وكان لها عدد من المندوبين في البرلمان السوري.

رابعا: يفترض أن نأخذ في الاعتبار أن غالبية قادة الإخوان المسلمين وكوادرهم عاشت في المنافي، ويرجح أن احتكاكهم لسنوات طويلة بالثقافة والحضارة الأوروبية ترك بصمات مهمة على أفكارهم ومواقفهم وحساباتهم، ونضيف في هذا الإسهاب أثر تجربة السجون ودورها في تعريف العديد من كوادر الإخوان المسلمين على الآخر المختلف، مما أدى إلى تغير سلوك الكثيرين منهم، طبعا الذين بقوا على قيد الحياة ولم تطلهم عقوبة الإعدام، وانتقلوا من عدوانية لافتة وعناد في تطبيق تقاليد الحياة الإسلامية على الجميع، إلى اقتناع أو تفهم لحقوق الآخر وخصوصيته. وأبعد من ذلك لعبت تجربة عيشهم المشترك مع سجناء من تيارات سياسية أخرى دورها في تشجيعهم على المراجعة وانتقاد الماضي وبناء ثقة بطرائق الحوار والعمل السلمي، ولا شك في أن غياب الحياة الديمقراطية بصفتها المناخ الصحيح لتعريف الأحزاب السياسية بعضها ببعض وتشذيب اندفاعاتها المرضية وسلوكها، هو ما أعطى تجربة السجن هذا الدور وتلك القيمة!

وعلى الرغم مما سبق، فثمة من لا يزال يشكك بنيات هذه الجماعة ويعتبر أنها تضمر غير ما تظهر، ويتخوف من أن يفضي منحها الثقة لتهديد مشروع التغيير الديمقراطي برمته، مذكرا مرة بتاريخها الزاخر بعصبيتها الآيديولوجية الدينية وبأساليبها الإقصائية والعنفية، ومرة بضعف قواعد الحياة الديمقراطية في بنيتها التنظيمية، في إشارة للقيمة الكبيرة وربما المقدسة التي يحتلها قسم الطاعة والولاء المفترض أن يؤديه كل منتسب إلى صفوفها، ويذكر مرة ثالثة باسم هذا التنظيم ذي المدلول الطائفي ومرجعيته الآيديولوجية التي تجعله ساحة خصبة لنمو اجتهادات أو ظهور اندفاعات تهدد خياره الديمقراطي وتنتصر للعقلية القديمة وطرائقها، ومرة أخيرة بغموض موقفها وعدم جرأتها في لفظ عبارة «فصل الدين عن الدولة»، ثم عدم الوضوح حول دور الإسلام في التشريع وحدود تدخله في الحياة الاجتماعية والمدنية.

لكنها طعنة توجه للديمقراطية حين يستمر البعض في تقويم هذه الجماعة بدلالة خيارها الآيديولوجي أو استنادا فقط إلى ماضيها العنفي وممارساتها الإقصائية، أو حين لا يتمعن جيدا في مراجعاتها النقدية المتكررة وفي ما نص عليه عهدها وميثاقها، بصفته تحولا نوعيا طال فكريا وسياسيا معظم مستويات عملها، أهدافا وآليات ووسائل، فلا أحد يملك الحق في تقرير أهلية الآخرين لتقبل الديمقراطية، ولا اشتراطات لضمان صحة الحياة الديمقراطية وعافية دعاتها سوى إشهار الإيمان بها والتأكيد على الالتزام بقواعدها وقوانينها.

في العديد من الحوارات يذكر الناس بعضهم بعضا بمحطات كان للمسلمين فيها دورهم الواضح في حماية أصحاب الديانات والمذاهب الأخرى، وفي حماية دور العبادة، وفي الدفاع عن حقهم في إقامة صلواتهم وشعائرهم وإلجام بعض الغوغاء من الإساءة لهم، وفي احترام وصول الآخر المختلف إلى موقع أو منصب كبير، كل هذه القصص عن التعايش بين الديانات والمذاهب مهمة وذات دلالة، لكن المطلوب صار اليوم أبعد من ذلك بكثير، المطلوب أن يتباهى الجميع ليس بقدرة أي طرف على حماية ورعاية الآخر المختلف، بل بحماسته لبناء دولة تضمن المساواة والحماية الحقوقية والقانونية للجميع من دون تمييز، والتباهي بدور كل طرف في الدفاع عن المواطن المتساوي من دون النظر إلى جنسه أو مذهبه أو دينه أو قوميته.