التوازن الإقليمي ما بعد الأسد

TT

خلال الأسبوعين الماضيين حدث تحول مهم في مسار الأزمة السورية؛ فمن جهة توحدت المجالس العسكرية التطوعية تحت منظومة «الجيش الحر»، ثم قادت كل من السعودية وتركيا مع دول الخليج مبادرة «أصدقاء سوريا» التي خرجت باعتراف شرعي بالمجلس الوطني السوري، وتعهدت فيه بعض الدول بإنشاء صندوق لدفع رواتب الجيش الحر، وتمويل عمليات الإغاثة للاجئين. هناك أيضاً، تطور لا يقل أهمية، وهو إعلان إخوان سوريا الذي تعهد بدولة ديمقراطية مدنية تتساوى فيها كل الطوائف والقوميات. ففي خطوة غير مسبوقة بالنسبة للتيارات الإسلامية في المنطقة، أعلن «الإخوان» بأنهم لن يعارضوا أن يصل إلى الرئاسة امرأة أو غير مسلم مما يمثل موقفاً متقدماً على أقرانهم من الإسلاميين، لا سيما الجماعة الأم في مصر، التي لا تزال غير قادرة على الخروج من عباءتها الآيديولوجية والحزبية الضيقة. أمام هذه التحولات ثمة سؤال مهم: هل يقود التغيير في سورية إلى توازن إقليمي جديد؟ أي بعيداً عن محور «الممانعة والمقاومة» الذي كانت ترعاه إيران وسورية، وتستظل تحته حركات راديكالية مسلحة كحزب الله وحماس وغيرهما من الجماعات الموالية للتيار الإمامي؟ وهل يدفع وصول بعض التيارات الإسلامية إلى السلطة تلك الجماعات إلى الاعتدال في رؤيتها للسلام الإقليمي؟ في مقالته الشهيرة «الأمن في الخليج» -التي نشرت عقب الثورة الإيرانية في فصلية«فورن أفيرز» - أشار البروفيسور روحي رمضاني (1979) إلى أن توازن القوى الإقليمية في الشرق الأوسط تشكل مع نهاية الحرب العالمية الثانية من ثلاث دول رئيسة وقتئذ: مصر، وإيران، والسعودية. في وقت لاحق من بدايات السبعينات انضم كل من العراق وسوريا إلى منظومة القوى الإقليمية. لكن المثير للانتباه أن كل الدول السابقة- باستثناء السعودية- سعت في وقت من الأوقات إلى إعطاء الأولوية للتوسع العسكري على حساب التنمية الداخلية، وانخرطت في تضخيم ترسانتها- بل وسمعتها- بمشروعات حقيقية وأخرى متخيلة، حتى تفرض نفسها كرقم صعب في معادلات المنطقة، ولكن النتيجة كانت دائما تنتهى إلى الفشل. حاول الرئيس جمال عبد الناصر، الاستعراض بقوة مصر السياسية والمغامرة في مشروعات ثورية لدعم ضباط عقائديين، ولكن تلك التجربة قادت إلى خسارة مصر لكل حرب دخلتها، ثم جاء بعده شاه إيران الذي سعى لبناء مؤسسة عسكرية ضخمة ليفرض نفسه كـ «شرطي المنطقة»، ولكن لم تنفعه تلك القوة في وجه المد الأصولي الديني الذي حرك الثورة ضده، ثم دخل كل من العراق وإيران في صراع عبثي دمر مقدرات كلا البلدين، وحين وضعت الحرب أوزارها، اتجه صدام حسين إلى ابتزاز جيرانه، وغزو دولة جارة لكي تتحطم قواته الهاربة في وجه تحالف دولي متفوق، ويعيش حالة حصار انتهت بتقويض نظامه، ودخول العراق في نفق الانقسام الطائفي. أما سوريا التي أمضى جيشها ثلاثين عاماً في لبنان، فقد خرج مكسوراً، ثم انتهى الحال به إلى التفكك في حرب داخلية ما بين نظام الأسد والثوار ضد حكمه المستبد. حتى الجيش المصري الذي استطاع ترميم جزء من صورته في حرب أكتوبر 1973، تورط منذ أكثر من عام في إدارة العملية الانتقالية بمصر ما بعد الثورة، ففقد تركيزه وتراجعت جاهزيته أمام استحقاقات الحكم، في بلد ما زال يعيش حالة من اللااستقرار. حالة أخرى من الحصار الاقتصادي، والشعارات الخادعة، يمثلها خطاب النظام الإيراني المتشدد، والذي يبدو للخارج في صورة المتحدي القوي العازم على تطوير صواريخه البالستية، والاستعراض العسكري المضخم في مياه الخليج، ولكن خلف غلالة القوة المتوهمة، هناك نظام فاقد لشرعيته عند قطاع واسع من الناخبين الإيرانيين، وحرس ثوري أقرب إلى عقلية الميليشيا التخريبية، منه إلى مؤسسة عسكرية محترفة، تمتلك التكنولوجيا والخبرة القادرة على مواجهة العالم الخارجي. صحيح أن النظام يعتمد على تكتيكات حرب العصابات والإرهاب، ولكن ذلك لا يكفي لتأمين أمن الدولة ضد أي تحد خارجي. في بحر الاضطرابات هذه، تبرز القوة العسكرية السعودية قوة باقية وحيدة تمتلك الجاهزية والكفاءة، وأهم من ذلك كله، قيادة سياسية معتدلة وحكيمة في التعاطي مع الواقع الإقليمي. الحديث عن التفوق العسكري السعودي- لا سيما الدفاع الجوي- لا يقلل من أهمية وحجم الجيوش الأخرى في المنطقة، ولكنه يوضح أن فرص السعودية في تعزيز موقعها الإقليمي واستقرارها الداخلي أفضل من الآخرين. في مقالة علمية مهمة نشرها الباحثان جوشوا شفرنسون وميراندا بريب من معهد ماساتشوسيتس (MIT) بعنوان: »تهديد الخام: حدود القدرات الصاروخية الإيرانية ضد منشآت النفط السعودية « خلصا فيه إلى أن إيران - وغيرها من القوى الإقليمية- تفتقر إلى الكفاءة العسكرية اللازمة لتنفيذ تهديداتها. كما يشير الباحثان أن لدى السعودية قوة كافية وجاهزية لردع أي اعتداءات، وأن مشروعات تسليحها خلال الأعوام العشرة القادمة، ستتجاوز كمياً ونوعياً، ما لدى منافسيها الإقليميين. أحداث العامين الماضيين برهنت على أن السعودية تواجه تحديات غير مسبوقة لأمنها الإقليمي، مما يستدعي وضع استراتيجية جديدة للدفاع تتواكب مع المتغيرات. السعودية تجد نفسها اليوم مضطرة لمواجهة تلك التهديدات وحدها لتأمين مصالحها، والدفاع عن شركائها الخليجيين. اعتداءات الحوثيين على الحدود اليمنية في 2009، استدعت تحركاً سعودياً منفرداً لمواجهة الأزمة، وحين أرادت بعض القوى الطائفية - المحسوبة على إيران- استهداف أمن واستقرار مملكة البحرين، كان الدور السعودي السريع والمباشر عبر قوات «درع الجزيرة»، مهماً لاستعادة مبادرة الوحدة الوطنية البحرينية في وجه العناصر المتطرفة. في كلتا الحالتين أخذت السعودية قرارها من دون الرجوع إلى أحد، وأثبتت أن لديها القدرة على حماية مصالحها بنفسها. وخلال الانتفاضات الشعبية التي ضربت عدداً من الدول العربية في 2011، كانت السعودية واضحة في موقفها من تسييس الشارع في المنطقة، وأظهرت تماسكاً وحزماً في الوقت الذي ارتبكت فيه حتى دول عظمى أمام المتغيرات الجديدة. وقد حاول البعض تصوير السعودية بوصفها معارضة لما اصطلح على تسميته بـ»الربيع العربي«، ولكن تبين بعد ذلك، أن السعودية كانت محقة بشأن مخاوفها من الفوضى والغرق في المجهول الذي يواجه تلك الدول، وفي الوقت ذاته كانت حازمة في رفض العنف من قبل السلطة أو الثوار. لقد أثبت الموقف السعودي من »آلة القتل« السورية صحة تصورها للأزمة، ولولا ذلك لتراجع الدعم والتأييد لقضية الشعب السوري.

لهذا فإن المعركة ضد نظام الأسد باتت ضرورية لضمان مصالح دول الخليج، بل ولتخليص السوريين من نظام أسرف في استخدام القوة المفرطة. الرسالة السعودية واضحة، ففي حين راهن الآخرون على التغيير الفوضوي ومحاباة الشارع الثائر والمنفلت في أميركا وأوروبا، كان الموقف السعودي أكثر حكمة واتزاناً في التعاطي مع الأزمة، ولهذا فإنه ليس غريباً أن يجد المسؤولون الغربيون أنفسهم مضطرين للذهاب إلى الرياض لأن بوسعهم أن يجدوا شريكاً، ولكن في تلك الدول التي تلفها الفوضى سيتكلمون مع من؟!