جيش سوري جديد!

TT

بعد مأساة التشرذم التي تعيشها المعارضة السياسية السورية، بدأت تذر بقرنها مأساة تشرذم عسكري جديدة، كان آخر تعبيراتها الإعلان عن تشكيل «الجيش الوطني السوري»، الذي يخبرنا أن هذا سيضم عسكريين ومدنيين، وسيكون جيشا على الأرض في الميدان، وسيقاتل دفاعا عن الشعب.

سأتجاهل سخرية بعض التنسيقيات الميدانية، خاصة تنسيقيات حمص، من الظاهرة الجديدة وما قوبلت به من استخفاف واستنكار. وسأتوقف بكل جدية عند ما يجري، ملاحظا أن الإعلان لا يتضمن ما يمكن أن يسوغ موضوعيا تشكيل جيش سوري إضافي؛ ذلك أن مهام الجيش المعلنة لا تتضمن جديدا يفتقر إليه «الجيش السوري الحر» و«المجلس العسكري الأعلى» و«لواء الضباط الأحرار»، أو أي تشكيل عسكري قد لا أعرف اسمه. وهو يتزامن مع خطوة توحيدية تمت بين الجيش الحر والمجلس أدخلت شيئا من التنظيم والمأسسة إلى المجال العسكري المعارض، الذي، على ما نسمعه من العارفين بالأمور، لم يتمأسس بعدُ، ولا تسود فيه علاقات عسكرية حقيقية، ولا تقوم بين أطرافه المختلفة صلات منظمة، ولا تنسق وحداته المتنوعة عملها وتتوزع واجباتها القتالية... إلخ، فكان لا بد إذن من القيام بشيء ما للخروج من هذا الوضع. من هنا، استمع سوريون كثيرون، باهتمام، إلى ما قاله العميد الركن مصطفى الشيخ حول المجلس الموحد الذي تم تشكيله بين الجيش الحر والمجلس العسكري الأعلى، وتمنوا أن تنهي الخطوة ظاهرة الانقسام والتشرذم العسكري، وتلزم حملة السلاح بقيادة موحدة وانضباط عسكري مهني، وبخط سياسي يقوم على حماية الشعب وعدم الانجرار إلى أي اقتتال لا فائدة منه مع الجيش الرسمي، أو إلى أعمال طائفية، وأخيرا، بالالتزام بمعايير أخلاقية وطنية تعبر عن نفسها من خلال العمل على احترام المواطن وحقوقه، وقمع أي تعديات عليه أو على ممتلكاته، لأي سبب، كائنا ما كانت الجهة التي تقوم بها... إلخ. كان من الضروري والواجب ضبط السلاح؛ لأن انتشاره المتزايد بين أيدي الناس يحمل مخاطر هائلة تهدد كل شيء في بلادنا: من حياة المواطن، الذي يجب أن يكون آمنا ومحميا، إلى وجود الدولة ووحدة المجتمع، إلى حراك الحرية والكرامة والعدالة، فلا بد إذن من ضبطه، خاصة بعد اتساع هجمات السلطة على الشعب، واضطرار قطاعات كبيرة منه إلى الدفاع عن نفسها بالسلاح، مع ما يؤدي إليه ذلك من انتشار له في كل مكان، وبعد أن صار الحصول عليه - في أعقاب مآسي القتل والتهجير في حمص وحماه وإدلب ودير الزور وحوران وريف دمشق ودمشق - مطلبا شعبيا عاما من الضروري التفكير في السيطرة عليه وإخضاعه لمعايير أخلاقية وسياسية قابلة للتنفيذ، ولا غبار عليها.

عوض هذا، يبدو أن هناك من يرى الأمر على وجه مختلف؛ لذلك أعلن عن تشكيل «جيش وطني»، كأن ما هو موجود من جيوش ليس وطنيا، أو كأن مرض الاتهامات المتبادلة، المعلنة منها والمبطنة، يجب أن ينتقل إلى المجال العسكري؛ حيث سيكون للخلاف مخاطر جمة على الحراك المجتمعي والصراع مع النظام، ليس فقط بسبب الطريقة التي يحل العسكر خلافاتهم من خلالها: وتتركز على العنف والسلاح، بل كذلك لأنه من غير الجائز تحويل حراك مجتمعي، سلمي ومدني، إلى تجمعات مسلحة، عسكرية كانت أم غير عسكرية، سيترتب على وجودها المزيد من إقصاء الشعب عن الشارع، والدخول في متاهات لا ناقة للمواطن فيها ولا جمل، من أبرز مظاهرها اليوم ما نراه من مسارعة ضابط سابق هنا وضابط أسبق هناك إلى تشكيل جيوش انطلاقا من حسابات أرجو ألا تكون شخصية أو ضيقة، تمليها في الحالة السورية الراهنة تباينات وجهات النظر أو أساليب العمل، عائدها الرئيسي شرذمة قوى المعارضة العسكرية الضعيفة جدا بالمقارنة مع قوة الجيش الرسمي، التي تحتاج إلى التوحيد والتنظيم أكثر بكثير مما تحتاج إلى تشكيلات انشقاقية ستترتب عليها بالتأكيد اختراقات أمنية، وستنتج خلافات وعداوات قد تنتهي بتصفيات متبادلة كتلك التي وقعت مرات كثيرة في تاريخ العرب الحديث: من ثورة الجزائر إلى الثورات العربية الأخرى، بما في ذلك ثورة من أعظم ثورات التاريخ: ثورة فلسطين العظيمة.

لا شك في حاجة الجيش السوري الحر إلى بناء عسكري مهني ومحكم، ولا شك أيضا في أنه بحاجة إلى عون ومساندة كل من لديه خبرة عسكرية من ضباط سابقين وحاليين، ومن المؤكد أن لدى هؤلاء خبرات مهمة عليهم وضعها تحت تصرفه لمساعدته على الصمود في وجه الهجمات الرسمية الضارية التي يتعرض لها في كل مكان، بعد أن أصبح ذراعا عسكرية للمجلس الوطني السوري، وترك الانطباع بأنه سيكون جزءا من بنية الدولة السورية المقبلة، ونواة لجيشها. هل يجب أن يقوم تشكيل عسكري جديد إلى جانب الجيش السوري الحر، إن كان سيأكل من رصيده وسيبلبل الحراك والشعب؟

إن لقضية الشعب السوري بعدا أخلاقيا باهرا، يتجلى في مجتمعية حراكه وتصميمه على بلوغ الحرية، وتحمله جسيم التضحيات، وقبوله الموت والدمار دفاعا عن كرامته، وتمسكه بوحدة السوريين الوطنية على الرغم ممَّا يعانيه من آلام ويتكبده من خسائر، فليس من المعقول ألا ينضبط جميع السوريين، خاصة العسكريين منهم، بهذا البعد الأخلاقي لحراكهم، إن كانوا يريدون حقا بلوغ الحرية ويستحقونها بالقول والفعل. ألا يحتم هذا التخلي طواعية عن كل ما يشق صفوفهم ويثير فيهم التناقضات، سواء تعلق الأمر بالميدان السياسي أم العسكري؟

تحية للعقلاء!