الإخوان المسلمون المصريون بين السياسة والأخلاق

TT

شاع لدى المحللين والمراقبين الانطباع في الشهور الستة الأولى للثورات العربية أنها «ثورات أخلاقية». وقد قصد البعض من هذا القول التأكيد على أهميتها وخطورتها باعتبارها تتدخل في مسائل القيم وأعماق الإنسان، وتريد أن تغير الفرد، وبالتالي المجتمع من الداخل. ويضيف هؤلاء أن هذه السمات الأخلاقية التي تجلت في الشعارات والتصرفات وغلبة عنصر الشباب في الأيام والأسابيع الأولى، إنما كانت في وجه رئيسي بين وجوهها المتعددة أيضا ردا على الحقبة الماضية بكاملها، التي تتضمن سياسات وتصرفات فظيعة وغير أخلاقية من جانب أهل الجمهوريات الخالدة، وتجاه المصالح العامة، كما تجاه أعراف الناس وأخلاقهم.

بيد أن كثيرا من المراقبين، وبينهم عرب وأجانب، وبعد الشهور الأولى على الثورات، ذهبوا نفس المذهب في «تأويل» هذه الثورات، أي قالوا إنها ذات نزوع أخلاقي غلاب، وقصدوا من وراء ذلك التقليل من شأنها، واعتبار أن القائمين بها من الشبان إنما هم مثاليون لا يملكون خبرات سياسية، كما أن الجمهور غير مؤهَّل لبناء مجتمعات سياسية حرة ومتطورة، لأنه لا يملك ثقافة ديمقراطية!

والواقع أن الثورات العربية أو حركات التغيير العربية هي حركات سياسية على درجة كبيرة من النضج، وهي تمتلك بُعدا أخلاقيا باعتبار الأهداف التي تسعى إليها من خلال الشعارات التي رفعتها. فالأهداف تتمثل في تغيير إدارة الشأن العام، ومن طريق الحركة السلمية الزاخرة التي تجتذب الجمهور، ولا تثير الانقسامات التي تحول دون بلوغ تلك الأهداف. والسلمية والديمقراطية، إن لم يكونا أمرين سياسيين فماذا يكونان؟ والذين يتصورون أنها لو كانت سياسية لكان ينبغي أن تكون مختلفة، يفكرون بعقلية ماضية هي عقلية الانقلابات العسكرية العربية، والأحزاب الماركسية اللينينية في زمن الحرب الباردة. وأرى أن الشعبية الزاخرة التي حصلت عليها حركات التغيير عند العرب وفي العالم، تعود لهذين الأمرين بالذات، اللذين ظهرا وتطورا لدى الشبان منذ الأسابيع الأولى: مواجهة الأنظمة السائدة سِلما، والتحول باتجاه الديمقراطية. أما العلاقات ووجوه التردد والمراوحة أحيانا، فإنها لا تعود إلى ضآلة الثقافة الديمقراطية، ولا حتى إلى قوة الأنظمة العسكرية والأمنية؛ بل إلى أنها ليست انقلابا عسكريا أو ثورة مسلحة حزبية. إنها عملية زاخرة تخرج من قلب الجمهور العريض والشاسع، والمديني والريفي، وتريد أو تعمل على ضم هذا الجمهور إليها بشتى فئاته دونما أوهام بالانتصار السريع، ووسط ظروف محلية وعالمية جديدة، تجعل من هذا التغيير نوعيا لا تستطيع فئة عسكرية أو حزبية أن تسطو به أو تسطو عليه من الداخل أو من الخارج، وهو الأمر الذي يفسر الاضطراب الهائل الذي أحدثته توجهات جماعة الإخوان المسلمين بمصر للاستيلاء على الدستور والدولة.

إن الواقع أن الإخوان المسلمين المصريين، التزموا في شهور الثورة الأولى بالشروط التي فرضها الشبان المدنيون، وأرادوا تجاوزهم بشروطهم وعلى مدى متطاول من طريق صناديق الاقتراع. وخلال ذلك - وحتى الانتخابات – انصرفوا لطمأنة سائر الأطراف بالطرائق التقليدية: أجروا صفقات مع المجلس العسكري، وجاملوا الأزهر والأقباط، واجتذبوا إلى تحالفاتهم الانتخابية قوميين وليبراليين بارزين، وخوفوا المجتمع من الشبان المدنيين (الفوضويين)، ومن السلفيين المتشددين في الوقت نفسه. ولكي ينفوا كل إرادة أو سعي للسيطرة على المؤسسات الدستورية أو إحداها، أعلنوا منذ البداية أنهم لا يسعون لأكثرية في مجلس الشعب أو مجلس الشورى، ولن يرشحوا أحدا لرئاسة الجمهورية. وقد انطلقوا يطمئنون السفراء الأجانب إلى عدم تعرضهم لاتفاقية كامب ديفيد، وحرصهم على حقوق الأقباط. وعندما اشتبك الشبان المدنيون، ثم الشبان الأقباط مع المجلس العسكري على مدى شهور، كان «الإخوان» دائما مع المجلس باعتباره الحامي للثورة وأهدافها.

بيد أن «الإخوان» أعطوا إشارة فاقعة إلى هدفهم البعيد في وقت مبكر لو أن أحدا أراد الإصغاء والتدبر. فالإعلان الدستوري المنظِّم للمرحلة الانتقالية ورموزها ومواعيدها، والذي صاغوه مع المجلس العسكري - ومن ضمنه المادة 60 - جرى تصويره من جانب قادتهم على أنه صراع بين الإيمان والكفر أو العلمانية الجاحدة. وعلى هذا الأساس حشروا الجمهور – هم والسلفيون - للدفاع عن الدين! فكان الاستفتاء الشعبي على الإعلان التجربة الأولى لهم في القدرة التنظيمية والتحشيدية، وفي إمكان الاستيلاء على المؤسسات الدستورية من طريق صناديق الاقتراع التي سبق أن أعلنوا أنهم لن يسعوا للاستيلاء عليها. وبعد الاستفتاء، الذي ظهر باعتباره هزيمة للقوى الشابة والليبرالية والأقباط، انصرفوا - وهم آمنون لجانب المجلس العسكري الذي كان مشتبكا مع الشبان - للاستيلاء على مجلسي الشعب والشورى في صناديق الاقتراع، التي تعاملوا خلالها مع الجمهور كما تعاملوا معه في الاستفتاء: الإيمان أو الكفر، والإسلام أو العلمانية. وقد تجاوزوا نسبة الـ50 في المائة في الصناديق، دون أن يخيفوا المجلس في اعتقادهم، لأنهم أبقوا له رئاسة الجمهورية، وساندوه في الإبقاء على الحكومة التي صارعها الشبان. لكنهم اعترفوا أمام أنفسهم أنهم فوجئوا بنسبة الـ25 في المائة التي حصل عليها السلفيون. وقالوا للفرقاء الآخرين إنهم كان يريدون شراكتهم ولا يريدون شراكة السلفيين، لكن الله غالب! والذي أراه أن الفوز السلفي هذا يعلل بعض ما حصل بعد ذلك، واتجاههم للتسرع، والحاجة للمزايدة مع السلفيين بدلا من المزايدة في مواجهتهم.

لقد استتب لهم الأمر في مجلس الشعب، وانصرفوا للقيام بمهمتين: التحضير للجنة كتابة الدستور بالشراكة مع السلفيين، والاتجاه لتحديد معالم السلطات بمصر كما ستبدو في الدستور الجديد من وجهة نظرهم: أي إقامة نظام برلماني/ رئاسي مختلط، لهم فيه أو للأكثرية النيابية رئاسة الحكومة أيضا، أي السلطتان التشريعية والتنفيذية، ولرئيس الجمهورية العتيد صلاحيات السيادة، والعلاقة الخاصة بالأجهزة الأمنية والعسكرية، وربما أيضا حق حل البرلمان. واللغز الآن: لماذا اتجهوا فجأة لمحاولة الاستيلاء على الحكومة قبل كتابة الدستور وقبل انتخابات الرئاسة؟! هل لأن اتفاقهم مع المجلس العسكري على شخص الرئيس تخلخل؟ أم لأنهم أرادوا أن يكونوا مسيطرين على حكومة انتخابات الرئاسة ضمانا لموافقة المجلس العسكري على الدستور المختلط؟ المهم أن المجلس العسكري المتوجس منذ الانتخابات، ما أصغى لتحديهم له في مسألة الحكومة، وبدأ يُظهر اهتماما أكبر بالمجلس الاستشاري الذي كوَّنه بمعزل عن مجلس الشعب وعن الجهات السياسية المختلفة. ولا شك أن القوى السياسية المختلفة خارج «الإخوان»، من ليبراليين وغير ليبراليين، كانت قد بدأت تشعر بتراجع العلائق بين «الإخوان» والمجلس، فاستعدت لمعركة لجنة كتابة الدستور، التي جاء أعضاؤها بنسبة 80 في المائة من «الإخوان» والسلفيين. وعندها ما عاد التجاذب منحصرا بين المجلس العسكري و«الإخوان»، بل انفجر المجتمع السياسي المصري كله في ثورة عارمة على «الإخوان» ونزعتهم الاستيلائية، واستعاد المجلس العسكري سمعته بوصفه حاميا للثورة والدولة المدنية من سطوة المتشددين!

ما انحسم الصراع بعد بالطبع، لكن الانتخابات الرئاسية ستتخذ اتجاها آخر بعد أن نقض «الإخوان» آخر تعهداتهم وأهمها بعدم الترشح لرئاسة الجمهورية، إذ رشحوا خيرت الشاطر نائب مرشدهم العام للرئاسة!

الثورات العربية ثورات سياسية، وهدفها إعادة بناء المجتمع السياسي لإدارة الشأن العام، وصون المصالح الوطنية بأفضل مما كان عليه الأمر خلال خمسة عقود. وبهذا المقياس فإن «سلوك» «الإخوان» الاستيلائي ليس سلوكا غير معهود في عالم السياسة والانتخابات، لكن «الإخوان» يتجاهلون أنهم في زمن ثورة لها أبعاد أخلاقية، وأنهم يملكون دعوى دينية وأخرى أخلاقية، وهم يقدمون أنفسهم للجمهور والعالم بهذا الشكل منذ عقود وعقود. وبالمقياس الديني والأخلاقي إياه ما كان سلوك محمد بديع والشاطر بديعا أو شاطرا، من الناحيتين الدينية والأخلاقية!