الدستور الشرعي الوحيد

TT

يصادف 19 من الشهر الحالي ذكرى إعلان دستور 1923 واختيار لجنة صياغته وهو درس تاريخي من أهم ثمار الشجرة التي روتها دماء وتضحيات شهداء ثورة 1919.

سعد زغلول باشا تزعم الأغلبية التي اكتسحت انتخابات خريف 1922 ليخلف عبد الخالق ثروت باشا رئيسا للوزراء.

بجانب الشرعية البرلمانية، كان لسعد باشا شرعية تزعم ثورة 1919 بمشاركة الجنسين من جميع الطوائف والعرقيات والأديان، من يهود أسسوا الاتحادات العمالية، ومهاجرين أوروبيين؛ وشرعية ملايين التوقيعات التي فوضت وفده لتمثيل الأمة عالميا.

ورغم شرعية لا مثيل لها في تاريخ 7000 عام، لم يخطر ببال زعيم الأمة ووفده (وكلهم من المحامين) السيطرة على لجنة الدستور.

تشاوروا مع كل الشخصيات الوطنية وفي مقدمتهم المغفور له الملك فؤاد الأول، أحد أهم وأعظم المصلحين التقدميين في التاريخ الحديث، فكان الإجماع على تفويض رئيس الوزراء الذي خسر الانتخابات، ثروت باشا لمؤهلاته: محام متمرس من مؤسسي أول مجلة مصرية للقانون 1890، وصاحب خبرة تنفيذية كوزير للحقانية (العدل) في وزارات حكومة حسين رشدي باشا الثلاث، وللداخلية في حكومة عدلي يكن باشا. وكرئيس للوزراء عام 1922، نجح دوليا (ومع بريطانيا المفوضة لحماية مصر) بكسب استقلال مصر بتصريح 28 فبراير (شباط) 1922 وعودة سعد باشا ووفده من المنفي وأشرق عهد نهضة مصر بمشروع الدستور.

كان عهد رجال عظام لم يزايدوا بتضحيات الاعتقال والمنفى أو بأنهم الأغلبية البرلمانية، بل كانت مصر غايتهم، فاختاروا محاميا وطنيا صاحب خبرة ودراية لإرشاد لجنة دستور من مفكرين وفقهاء دستور مصريين ودوليين.

غياب دستور 1923 عن ساحة المناظرات السياسية في مصر اليوم أمر أغرب من مسرح العبث؛ فصحف مصر ومواقع شباب الثورة وحركتا «6 أبريل»، و«كفاية» تخلوا عن مناقشته.

وأفدح ما في الكارثة فقدان «الوفد»، حزب سعد باشا، لذاكرته بعد وعيه؛ فأسقط من دعايته الانتخابية زعماء نبض قلب مصر بكفاحهم: كفؤاد سراج الدين باشا، ومصطفى النحاس باشا، ومكرم عبيد باشا، وصولا إلى زعيم الأمة سعد باشا.

أو لم يكن التفاخر، أثناء الانتخابات، بدور «الوفد» في إنجاز أحد أعظم دساتير القرن العشرين، سيضاعف عدد مقاعده في البرلمان؟

لماذا لا يطبع «الوفد» نصوص دستور 23 في كتيب ويسجله على كاسيتات لتوعية الملايين؟ ولماذا لا ينشر نصه الكامل في صحف حزبي الوفد والغد؟

لماذا يعيد المصريون اختراع العجلة؟

لديهم أعظم الدساتير التي واكبت نهضة مصر من 19 أبريل (نيسان) 1923 (عندما حل بديلا للقانون النظامي رقم 29 لعام 1913)، وهو قانونيا الدستور الشرعي الوحيد القائم للأمة، فلم يلغ باستفتاء قانوني بقرار أصدره برلمان منتخب، وإنما بقرار نظام (انقلاب 52) لا يمتلك الشرعية القانونية لإلغائه.

وعندما حل دستور 30 «الهايف» محل الدستور باشا، (22 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1930) انتكست الديمقراطية وتردت الحياة السياسية، واستمرت المظاهرات بلا توقف حتى ألغاه الملك فؤاد بالمرسوم الملكي 142 لعام 1935، وتعهد زعماء كل الحركات السياسة (عدا «الإخوان») بعدم المساس به.

أكد دستور 23 على الحكم البرلماني والسيادة للأمة كالمصدر الأعلى للسلطات (مادة 23) ممثلة في برلمانها المنتخب وله وحده الحق في إصدار وإلغاء القوانين، والتي تدخل حيز التنفيذ بعد 30 يوما ولا قانون بأثر رجعي (مادتا 24 - 28). وفصلت المادتان 29 - 32 بين السلطات القضائية والتنفيذية والتشريعية.

الباب الثاني يضع دستور 1923 في مصاف دساتير القرن 21 الأوروبية بالمحافظة على حقوق المصريين وجعل مساس أي جهة حكومية أو رسمية بها جريمة يعاقب عليها القانون.

المصريون لدى القانون سواء. متساوون في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية وفيما عليهم من الواجبات والتكاليف العامة، لا تمييز بينهم بسبب الأصل أو اللغة أو الدين. الحرية الشخصية مكفولة.

ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون. وحرم الدستور إبعاد مصري من الديار المصرية، أو حظر إقامته في مسكنه أو في أي مكان إلا بحكم قضائي. كما حرم على السلطات انتهاك حرمة المنازل من دون حكم قضائي. وأكد حرمة الملكية الخاصة وعدم نزع أي ملكية إلا بسبب المنفعة العامة في الأحوال المبينة في القانون وفقط بأحكام قضائية وبشرط التعويض المادي العادل.

وحظر الدستور على المحاكم مصادرة الأموال والممتلكات كعقوبة. كما حرم إفشاء أسرار الخطابات والتلغرافات والمواصلات التليفونية، وجعل التنصت عليها بلا أمر قضائي مسبق جريمة يعاقب عليها القانون.

وضمن دستور 23 حرية الاعتقاد المطلقة. وحماية حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد (بصيغة الجمع وليس فقط الأديان السماوية الثلاثة)، وكفل حرية الرأي وحق كل إنسان (ليس «المصري» وإنما «الإنسان»، أي يشمل غير المصريين) في الإعراب عن فكره بالقول أو بالكتابة أو بالتصوير أو بغير ذلك (تحسبا لوسائل تعبير لم تكن اخترعت بعد).

وتأكيدا على حرية الصحافة، حظر الدستور الرقابة على الصحف أو إنذارها أو وقفها أو إلغاءها بالطريق الإداري.

وسبق الدستور باشا عصره (مادة 16) بتأكيد حرية أي شخص في استعماله أي لغة أراد في المعاملات الخاصة أو التجارية أو في الأمور الدينية أو في الصحف والمطبوعات، أيا كان نوعها أو في الاجتماعات العامة.

وأكد حرية التعليم ومناهجه ومجانية التعليم الأولي (الابتدائي) وجعله إلزاميا للبنين والبنات.

وكفل حق تكوين الجمعيات والنقابات والاجتماع بلا إذن من البوليس (فقط الاجتماعات العامة والمظاهرات اشترطت الإذن). ومنعت المادة 26 البوليس من حضور لقاءات الجمعيات واجتماعاتها.

قدس دستور 23 حق الملكية الخاصة وحرية الفرد في المأكل والملبس والمشرب ولغة معاملاته ومنع أجهزة الدولة من التدخل في شؤونه بلا أحكام قضائية مسبقة. ولهذا ألغى عسكر انقلاب يوليو (تموز) دستور 1923.

فإلغاؤه عام 1958 فتح باب الممارسات الفاشية بمصادرة ممتلكات الناس، ونزع الجنسية عن مئات آلاف من المصريين، خاصة اليهود وأبناء من تمصروا اختيارا، وترحيلهم قسرا ما بين 1958 - 1968. فخسرت مصر آلاف العقول، والمستثمرين، ورجال الصناعة، وأخلص الوطنيين من أبنائها المشاركين في ثورة 1919. ومن لم يستطيعوا نزع جنسيته زجوا به في المعتقلات.

ودراسة التاريخ ستجنب المصريين تكرار تجربة 1930 فليطرحوا الدستور باشا للمناقشة. ولأن ما قام على باطل فهو باطل، فإن إلغاء ضباط انقلاب 1952 لدستور 23 بدوره باطل، وليهرع محامو مصر إلى المحكمتين الدستورية والإدارية. فدستور 1923 وحده هو الشرعي القائم في مصر، وهو أيضا الدرع الأقدر على حماية المحروسة من خطر الفاشية المتربصة بها.