قليل من السلاح.. كثير من الحراك!

TT

لا هدف لمؤيدي الانتفاضة الشعبية السورية غير التفكير في حلول للمعضلة التي يطرحها عليهم استخدام السلاح الرسمي ضد الشعب الأعزل، وموت بنات وأبناء الشعب تحت الرصاص، مع أنهم كثيرا ما يقتلون في منازلهم ومع أسرهم، ومن دون أن يكونوا قد شاركوا في مظاهرة أو احتجاج. ما العمل لوقف القتل الكثيف والمتعاظم، الذي ينتشر في كل مكان من سوريا ويقضي على الزرع والضرع، ويستهدف قبل كل شيء حياة المواطنين العزل، لمجرد أنهم يعلنون رفضهم الاستمرار في العيش مع الاستبداد، ورغبتهم في الحرية.

وكان التظاهر السلمي الشكل الذي اختاره المواطن السوري العادي للتعبير عن تطلعاته، وللاعتراض على ما يقع عليه من إيذاء وظلم، وللتمرد على سلطة لا تفكر في تحسين أوضاعه، تسيره وفق مبدأ «جوع كلبك يتبعك»، وعلى مبادئ سياسة أعلنها ذات يوم حاكم مغربي هو السلطان إسماعيل، الذي قال: «من عادانا قتلناه، ومن والانا عذبناه، والسعيد من لا يرانا ولا نراه». خرج المواطن متظاهرا، فانتهجت السلطة سياسة تمنع التظاهر تستند إلى أكذوبتين بائستين أرادت لهما أن تتحولا إلى حقائق، هاتان الأكذوبتان هما:

- إن التظاهر يغطي أو يحجب وجود عصابات مسلحة لا مهرب من القضاء عليها بالقوة، خاصة أن رجالها متطرفون وإسلاميون ويستهدفون الشعب الأعزل. بما أن هؤلاء يندسون بين المتظاهرين، فإن قتلهم حيث هم يصير أمرا لا مهرب منه، مع ما يمكن أن ينجم عن ذلك من سقوط متظاهرين أبرياء، يتحملون وحدهم المسؤولية عن موتهم بالرصاص الرسمي.

- إن التظاهر مشروع وقانوني، إذا ما تم بموافقة السلطات المختصة كوزارة الداخلية، لكن المتظاهرين ينزلون إلى الشارع دون موافقة السلطات الرسمية، مما يتيح للعصابات فرصة الإفادة من حراكهم والانقضاض على النظام، الذي يجد نفسه مجبرا على الدفاع المشروع عن نفسه، مع ما يترتب على ذلك من نتائج قاتلة بالنسبة إلى الشعب، ليس الأمن وشبيحته مسؤولين عنها، حتى إن قتل من يقتل برصاصهم.

بهذه السياسة التي اعتمدت لتبرير قتل المتظاهرين، تمت تصفية المواطنين بدم بارد بحجة حمايتهم من عصابات مسلحة تندس في مظاهراتهم. وبما أن هوية هذه العصابات لم تحدد في أي وقت، وإن كان النظام قد قال كلاما مبهما عن أصوليتها، فإن أي قتيل سقط برصاص الأمن تحول بقدرة قادر وبصورة آلية إلى أصولي ومسلح يستحق الموت. يفسر هذا لماذا انتشر القتل وطال أعدادا متزايدة من المتظاهرين الأبرياء في كل مكان وصلت إليه أسلحة السلطة وأجهزتها. ويشرح الطريقة التي اعتمدها العقل الرسمي في التعامل مع الشعب، الذي تحول إلى كتلة أصوليين هائلة العدد، بينما انقلب أحياؤه من المتظاهرين إلى قتلى محتملين أو مرشحين للقتل، عقابا لهم على أصوليتهم المزعومة! إلى هذا، فإن القول بشرعية التظاهر بعد الحصول على موافقة مسبقة من وزارة الداخلية، أدى إلى اعتقال وتعذيب كل من طلب التظاهر المرخص، فكأن الإعلان كان فخا نصب للشعب أريد به تمكين السلطة من معرفة نشطاء المظاهرات وهوية من يحرضون على المشاركة فيها، تمهيدا لاعتقالهم ومعاقبتهم، رغم أن مظاهراتهم كانت جميعها سلمية وغير مسلحة، ولم يكن لأي طرف إسلامي أو أصولي منظم أي علاقة بها أو أي دور فيها.

كانت المظاهرات السلمية خصم النظام الرئيس وشكل النضال الذي اختاره الشعب بعد حادثة درعا المروعة وما أعقبها من نزول أعداد كبيرة من المواطنين إلى الشارع، تعبيرا عن رفضها التام للنظام، ورغبتها في حياة تقوم على الحرية والعدالة والمساواة. وكانت السلطة السورية قد وضعت سياسة متكاملة استهدفت قدرة المواطنين على النزول إلى الشارع، وخلقت أداة أمنية خاصة كلفتها بهذه المهمة، سماها الشعب فيما بعد «الشبيحة»، لكن هؤلاء فشلوا في تنفيذ ما كلفوا به، باعتبارهم فرق أمن خاصة تعمل بالتوازي والتقاطع مع الأمن وأجهزته، فتم عندئذ زج الجيش في المعركة وكلف بمنع الشعب من التظاهر، حتى ليمكن القول: إن هدف النظام الحقيقي كان إما الحيلولة دون وصوله (الشعب) إلى الشارع، وإما إخراجه منه بالعنف، بأقصى قدر من العنف يتطلبه بلوغ هذا الهدف، ليحال بينه وبين التظاهر السلمي، المعبر عن طموحاته ووحدته ونبذه العنف.

ومع أن نزعة إلى الاستهانة بقيمة التظاهر وبسلميته نشأت فيما بعد لدى أوساط متنوعة من المعارضة، أنتجتها ضغوط النظام العنيفة على عامة الناس، وسوغتها أعداد القتلى التي لم تعرف التناقص أو التوقف، بل ازدادت باطراد واتخذت أشكالا وحشية بكل معنى الكلمة، فإن النظام واصل اعتبار هذا الضرب من الحراك عدوه الرئيسي، وعبر عن موقفه من خلال وضع معايير لإطلاق النار على الخلق استندت إلى مبدأين هما: منعهم من بلوغ الساحات العامة للاعتصام فيها، ومنعهم من تجميع أعداد كبيرة تعطي الانطباع بأن الشعب فقد ولاءه للسلطة وشرعت كتله الكبرى تعبر عن رفضها لها.

واليوم، وبعد توطد نزوع قوي إلى المطالبة بتدخل عسكري خارجي يوقف عنف النظام، وتحوله إلى سياسة رسمية تتبعها أطراف وازنة في المعارضة، تسود استهانة جدية بالتظاهر السلمي، الذي صار يعتبر أداة غير ملائمة لتحقيق مطالب الشعب، في التقاء غريب آخر بين النظام وبعض معارضيه، يضاف إلى الالتقاء على نزع الطابع المجتمعي عن الحراك، والانخراط في مواقف تتسم بالطائفية، وبالابتعاد عن الحرية كحاضنة رئيسية للنضال في سبيل البديل، وبالذهاب إلى السلاح، الذي عبر عن نفسه بأكثر الصور فظاظة في رأي ضابط متمرد قال بكل صراحة: «ليست السلمية طريقنا إلى إسقاط النظام. تغيب الحرية غيابا شبه تام عن كلام أنصار العنف والسلاح، بما لا يطمئن إلى المستقبل، بل هو العنف، الذي سيطاول كل من لا يقف معنا أو ينضم إلينا من جيش السلطة».

لا مبالغة في القول: إن كل ما حققه الشعب خلال العام الماضي يعود إلى التظاهر السلمي، إلى التظاهر وإلى السلمية. ولا مراء في أن الانتقاص من قيمة التظاهر يعني عمليا الانتقاص من دور الشعب ورفع قيمة ومكانة الأدوار البديلة، التي لا تعتد بالتظاهر السلمي، بل بالعنف المسلح، علما بأن الرد على العنف الرسمي كان سينجح بقدر ما ينجح الحراك الشعبي في زيادة أعداد المتظاهرين في الشوارع، وزيادة انتشارهم مكانيا وتكثيف تحركهم زمنيا، وإنقاص أعداد المحايدين والمتفرجين، وطمأنة الخائفين من وعلى المستقبل، وزيادة تضامن بنات وأبناء الشعب وتوطيد وحدتهم الوطنية وتجسيدها في هيئات ولجان جامعة تضم مواطنين من مختلف الأطياف السياسية والدينية والمجتمعية والإثنية... إلخ، ليس من أجل تقويض أسطورة النظام الذي يدافع عن الشعب وحسب، بل كذلك لتقويض معنويات أتباعه وأجهزته وتفتيت ما له من سند مجتمعي، ورفع معنويات ودور من يقاومون سلميا بطش الآلة العسكرية والأجهزة الأمنية والشبيحة، وأخيرا، لكسب المزيد من تعاطف الأمم والشعوب التي تنظر اليوم بإعجاب شديد إلى سلمية الشعب الشجاع، المتفوق أخلاقيا ومدنيا على نظامه، وما زال يعبر عن تفوقه بالتظاهر السلمي، رغم ما يتعرض له من قتل إجرامي شنيع.

ركز النظام على إطفاء التظاهر السلمي، ونجح نسبيا فيما قصد إليه عن طريق استعمال غير مقيد للعنف المسلح، رغم تمسك قطاعات واسعة من السوريات والسوريين بنهج التظاهر المدني والإنساني إلى اليوم، أي بعد مرور أكثر من عام على الحراك، ورغم تنكر كثير من أنصار العمل المسلح لقيمه ولحوامله المجتمعية والسياسية.

هناك اليوم من يريدون قليلا من التظاهر وكثيرا من الرصاص، والأصل في الانتفاضة الشعبية هو الكثير من المظاهرات والقليل من الرصاص، كي لا تكون النتائج مأساوية أو كارثية، وتبتعد قطاعات واسعة من المواطنات والمواطنين عن دورها المأمول، ويضيع الناس بين راغب في العنف ومعارض له، ويتخلى عدد متزايد من المحايدين عن موقفهم الإيجابي من الحراك، ولا يبقى في الشوارع غير حملة سلاح أغلبيتهم الساحقة من الشبيحة وأجهزة الأمن والجيش، ويفقد العالم موقفه المتعاطف مع الشعب المضحي، الذي يفضل تحمل الموت على الشروع في ممارسة القتل، ويضيع كل ما نزل الشعب إلى الشارع في سبيل تحقيقه سلميا: الحرية والكرامة والعدالة.