هل تتعرض الدولة المصرية للإفلاس؟

TT

خلال الأسابيع الأولى للثورة المصرية كتب وقيل الكثير عن التحول التاريخي الذي قام به الشباب المصري الذي تحدى الخوف وقرر التغيير، قيل مثلا إن الثورة يقودها شباب غير مؤدلج وبعيد عن تسييس الأحزاب التقليدية، قيل أيضا إن القوى السياسية فقدت زمام المبادرة وإنها تتعرض هي الأخرى لهزات داخلية. كتب الكثير عن طموحات «الثورة»، وعن الحاجة إلى تطهير المؤسسات من فلول النظام السابق، وذهب البعض إلى أن ما حدث في مصر سيغير وجه المنطقة. أما التساؤلات حول تنفيذ العسكر لانقلاب داخلي، وخطورة وصول الإسلاميين - وبالذات الإخوان - للسلطة، أو حتى صعوبة التحديات الاقتصادية والأمنية بعد انهيار نظام مبارك - المعتدل في سياسته الخارجية - فقد كان يتم التقليل من شأنها، واتهام أصحابها بـ«العيش في الماضي»، فهذه «فزاعات» النظام السابق، ومصر «الثورة» ستكون مختلفة.

تأمل في وضع مصر السياسي، والاقتصادي، والأمني، ستجد أن البلد يمر بمنعطف خطير يتهدد استقراره على المدى الطويل. الصراع بين الإخوان المسلمين ومنافسيهم على الانفراد بالسلطة بات جليا، فهم كسبوا الأغلبية في انتخابات البرلمان والشورى، وقدموا حتى الآن مرشحين للرئاسة بعد أن كانوا وعدوا بعدم المنافسة عليها، وها هم يديرون مع المجلس العسكري مناورات حذرة حول اللجنة التأسيسية لوضع الدستور. أما الشخصيات والأفراد الذين ملأوا التحرير قبل عام مبشرين بثورة «الورد اللي فتّح في جناين مصر»، فيبدو أنهم لا يمثلون إلا أقلية في مجتمع بات يتنافس فيه إسلاميون وعسكريون سابقون على مقعد الرئاسة.

الاقتصاد المصري يشهد تراجعا مدويا قد يعصف بمستقبل النمو لعقود في بلد يعاني من الفقر والأمية وضعف الإنتاج وانتشار الفساد البيروقراطي. البنك المركزي المصري أعلن تراجع الاحتياطي الخارجي إلى أقل من 15 مليار دولار، أي أقل من الحد الأدنى من قيمة ثلاثة أشهر من الواردات بحسب شروط صندوق النقد الدولي. ليس هذا فحسب، مصر خسرت ما يقارب 20 مليار دولار في الأشهر الأربعة عشر الأخيرة، بحيث انخفضت السيولة النقدية في البنوك المصرية من 30 مليار دولار قبل الثورة إلى 9 مليارات دولار بسبب هجرة الودائع، ولجوء الحكومة إلى اقتراض الحد الأعلى من قدرة البنوك المحلية. حاليا يتجاوز عجز الميزان التجاري للعام الماضي 10 مليارات دولار، وفي قطاع السياحة فقط فقدت مصر 4 مليارات دولار، بحيث أن عجز الموازنة المصرية (إضافة إلى قروض الداخل والخارج) بلغت 76 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي.

ماذا تعني هذه الأرقام بالنسبة للثورة المصرية؟

بحسب مقال للخبير الاقتصادي محسن خان - معهد بيترسون بواشنطن -، فإن إصلاحات نظام مبارك الاقتصادية منذ عام 2004 أنتجت نموا مطردا حتى 2010، وحققت احتياطيا تجاوز 36 مليار دولار، هذه الإنجازات كلها على وشك أن تنهار، بحيث أن تراجع الاستثمار الأجنبي في قطاعات مهمة كالسياحة والبترول والاتصالات، وازدياد العجز في الميزان التجاري قد يحولان مصر نحو الإفلاس خلال عامين إذا ما استمرت المؤشرات كما هي عليه. يجادل محسن بأن السياسيين المصريين قد تمادوا في استدامة الوضع الراهن، وفشلوا في مواجهة المواطنين المصريين بحقيقة الأزمة شراء للوقت، ولكن مصر مقبلة على أزمة اقتصادية قد تعصف بعملتها، وتقضي على فرص حصولها على قروض أجنبية خصوصا مع اللغة التحريضية التي يستخدمها الإخوان - مثل تصريحات خيرت الشاطر الأخيرة - مع صندوق النقد الدولي. ستحتاج مصر - كما يشير محسن - إلى استقرار سياسي أولا، ثم إلى 15 مليار دولار على هيئة قروض، وهبات، واستثمارات أجنبية لكي تصحح مسارها الاقتصادي، وإلا فإن مؤسسات دولية تحذر من أن الجنيه المصري الذي فقد 4 في المائة من قيمته حتى الآن مرشح لأن يفقد ما يزيد على 25 في المائة خلال نهاية العام. أضف إلى ذلك تدني قيمة الصكوك الحكومية التي أصدرت أخيرا، مما يهدد بتراجع العملة حتى إلى 45 في المائة إذا استمرت المؤشرات الراهنة («اقتصاد مصر المكسور»، بروجكت سنديكيت 7 أبريل/ نيسان 2012).

قد يقول البعض إن ما تمر به مصر هو مسألة وقت، وإنه ما إن يتم انتخاب رئيس واختيار دستور جديد حتى يتمكن - الإخوان مثلا - من وضع بصمتهم البراجماتية - كما يزعمون - على أوضاع مصر الاقتصادية والأمنية. برأيي، أن ذلك أمر مستبعد، فالحزب الإخواني بحسب تجربة العام الماضي لا يزال يعيش في الماضي، وهو يكشف عن إفلاس النخب المصرية فكريا وثقافيا، قبل أن يفضح عن ضحالة رؤية الجماعة لطريقة إدارة الحكم. لهؤلاء الذين ينزعجون من انتقاد الثورة المصرية - لأسباب عاطفية وعقائدية - ينبغي تذكيرهم أن دخل الفرد في إيران بعد الثورة لا يزال حتى اليوم أقل مما كان عليه قبل 33 عاما، أي إنه قد يأتي وقت يترحم فيه البعض على فساد مرحلة مبارك، وجناية التوريث التي سلمت البلد لأشخاص متشددين لا يملكون أي رؤية تحديثية لوطنهم.

في 1964 حدث انقلاب عسكري في البرازيل تلك الدولة التي تعاني من الانفجار السكاني وتزايد معدلات الفقر وانحصار الموارد. حاول العسكر تصوير ما قاموا به بوصفه «ثورة شعبية»، ولكن أدركوا بعد شهور أن مشكلات إدارة الدولة لا سيما الفشل الاقتصادي تحتاج إلى تضحيات وصرامة في التنفيذ، ولهذا تم التركيز على إصلاح الاقتصاد عبر تحريره مما قاد إلى خصخصة كثير من المرافق العامة، وإقفال بعض المصانع المتعثرة، وتقليص نفقات الحكومة لا سيما عدد موظفيها. في سنوات قلائل شهد الاقتصاد البرازيلي قفزة هائلة، بحيث بات الكثير من المراقبين يتحدثون عن «المعجزة البرازيلية»، والتي تتوجت مع صعود البرازيل كرويا في 1970، حتى رفعت الحكومة شعارا حينها يقول: «البرازيل، أحبها أو ارحل عنها».

ولكن العسكر الذين أسكرتهم النتائج الأولية شرعوا في التنافس على كعكة الاستثمار الأجنبي، ومع تزايد شراهة الحكومة في الإنفاق لشراء رضا الأغلبية الفقيرة عبر استدامة مشروعات الدعم لتلافي الاستحقاق الانتخابي فقد وصلت الدولة إلى حالة من المديونية الخطيرة التي عرضت الاقتصاد البرازيلي للانهيار بداية الثمانينات فيما عرف بعد ذلك بأزمة «الديون اللاتينية».

سوف تخسر البرازيل عقدا من الزمان بين 1982 - 1992 قبل أن تتمكن من إعادة تنشيط اقتصادها، ويعود الفضل في ذلك إلى أن الأحزاب التي جاءت خلال العقدين الماضيين قد انتهجت سياسات اقتصادية إصلاحية مركزة على اقتصاد السوق، وتحسين فرص التنافس الاقتصادي، حتى الزعيم اليساري لولا دي سيلفا الذي أمضى ثلاثة عقود معاديا لاقتصاد السوق، تحول بعد تسلمه الرئاسة في 2003 نحو دعم السياسات الاقتصادية لسلفه مجادلا بأن الأولوية هي للإصلاح الاقتصادي حتى استبدلت البرازيل هذا العام ببريطانيا كخامس قوة اقتصادية في العالم.

ألا تذكرك هذه التجربة بما تمر به مصر اليوم من صعوبات سياسية واقتصادية؟! لعل الفارق أن سياسيي البرازيل كانوا مستعدين لمواجهة مواطنيهم بحقيقة الأزمة، والتضحيات الاقتصادية الواجب اتخاذها. أما في مصر كما يشير الكاتب المخضرم علي سالم في مقاله الأخير بهذه الجريدة، فإن السياسيين المصريين ينحصر نشاطهم في «عبقرية العجز عن الإنجاز».

حقيقة، الخطر في مصر ليس من الإفلاس الاقتصادي وحده، فلطالما مر المصريون عبر التاريخ بسنوات عجاف، بل في إفلاس فكر وثقافة «ثورة التحرير» التي لم تعدُ - حتى الآن - أن استبدلت بنظام سيئ، متشددين أكثر سوءا وخطورة منه.