سوريا: خطوات محتملة!

TT

بينما يدلي المسؤولون السوريون بتصريحات متناقضة حول موقفهم من مهمة كوفي أنان، وينشرون الكثير من الضباب حول نيتهم تطبيق بندها الذي يلزمهم بوقف إطلاق النار وسحب الأسلحة الثقيلة من المدن، وفي حين تتعهد وحدات الجيش السوري الحر بتطبيق وقف إطلاق النار في حال التزم النظام فعلا بما تمليه مهمة أنان، تكثر التكهنات حول ما يمكن للنظام أن يفعله، وهل سيقبل حقا تطبيق مبادرة اعتمدها بيان رئاسي صادر عن مجلس الأمن، الذي جدد قبل أيام قليلة تأييده لها وطالب النظام بتطبيقها من دون مراوغة أو مماطلة. يتساءل العالم حول موقف النظام الحقيقي، وهل سيقبل وقف إطلاق النار بعد حملته المستمرة منذ شهرين، والتي بلغ عنفها حدا يذكر بمجازر رواندا، وبتلك العملية التدميرية الهائلة التي قام بها شمال أميركا ضد جنوبها بعد نهاية الحرب الأهلية وهزيمة الأخير، وأعطيت اسما كوديا هو «الأناكوندا»، وعملت على تدمير كل ما كان فوق الأرض من منشآت الجنوب ومزارعه ومصانعه وسككه الحديدية ومطاراته ومرافئه... إلخ.

لا يوجد سؤال آخر على لسان المراقبين والمهتمين ومواطنين عاديين في العالم، غير السؤال التالي: هل حقا سيوقف النظام حلا أمنيا تصاعد عنفه إلى أن بلغ درجة التدمير الشامل لمناطق واسعة من سوريا، وأخذ أكثر فأكثر شكل انتقام منظم، منهجي ومخطط، طاول الشعب في مختلف مناطق سوريا، التي تحولت خلال عام واحد من بلد كانت أنحاء كثيرة فيه بعيدة عن قبضة السلطة الباطشة، إلى بلد منكوب، تشن عليه حملات عسكرية من طبيعة حربية لا تعرف الرحمة، ترى فيه عدوا لا بد من القضاء عليه، بأي قدر من الوحشية وأي سلاح، لأن وجوده لم يعد يتفق، ولم يعد يقبل التوفيق، مع وجود السلطة ونظامها الأمني المافيوي الفاسد؟

يطرح العالم سؤاله وسط إحساس شديد بالذعر من حجم الفظاعات التي تحدث، ومن نتائج المعادلة التي نجح العنف الرسمي في فرضها على المجتمع السوري والعالم، وليس في نصها غير كلمات «إما نحن وإما هم»، مع ادعاء كاذب يزعم أن قتل الشعب يتم دفاعا عن الدولة، ويفخر بالنتائج التي تحققت «على أرض الواقع وفي الفضاء الافتراضي»، كما قال رئيس السلطة قبل أسابيع، ووصلت إلى حد تكسير المجتمع والقضاء على أجزاء كبيرة منه، وإلا ما معنى أكوام الجثث المتراكمة في كل زاوية وركن من زوايا وأركان المدن والقرى؟.. وما معنى البيوت المحروقة أمام ساكنيها في الأرياف النائية، التي يبين وصول التمرد المجتمعي إليها لأول مرة في تاريخها المدى الذي بلغه انقطاع العلاقة بين الشعب والنظام، وكم هو حقيقي انتفاء معنى الدولة ووظائفها عن السلطة وأجهزتها؟.. وأخيرا ما معنى انتقام النظام وجيشه من شعب آمن، يتظاهر في قرى تقع فوق ووراء جبال لا يصل إليها إعلام، فتفضح مظاهراتها مزاعم النظام عن الشعب الموالي له، ويفهم القاصي والداني أنه شعب فقد الأمل بأهل الحكم ووعودهم، وبلغ حدا من النضج يجعله يرى في الحرية مطلبا يستحق أن يموت من أجل تحقيقه، وفي رحيل حكامه غاية لا يتراجع عنها، مهما تطلبته من التضحيات؟

وعد النظام كوفي أنان بوقف إطلاق النار، لكنه كثفه خلال الأسبوعين الماضيين إلى الحد الذي أثار شكوك العالم في صدق وعوده. فهل صحيح أنه سيوقفه وسيعيد الجيش إلى ثكناته؟.. لا أعتقد شخصيا أن هذا صحيح أو أنه سيحدث فعلا، لكنني أظن أن النظام وضع بديلين سيعتمد أحدهما في المستقبل القريب، يقوم أولهما على المنطق التالي: لقد أوقعنا قدرا من الخراب في مناطق الاحتجاج يكفي لردع المواطنين السوريين من جهة، ولإشغالهم بإعادة إعمار مستلزمات وجودهم الحياتية التي تم تدميرها من جهة أخرى. لذلك، ستكون قوى وأسلحة أجهزة الأمن والشبيحة ومن سيرتدون ملابس مدنية من أفراد الجيش المنسحب من المدن كافية لإبقاء هؤلاء تحت ضغط آني وشديد يكفي لوقف حراكهم وتمردهم، عندئذ سيتحقق هدف الحملة الأمنية: تقويض مقومات وجود السكان أو من يبقى منهم حيا، ووقف المظاهرات الشعبية الكثيفة، التي نجحت طيلة نيف وعام في إقامة توازن عجز عن كسره، جسّده بقاء المتظاهرين في الشارع، وها هو يحاول كسره عن طريق إخراج أعداد كبيرة جدا منه!.. بهذه الحسابات، سيسحب قسما من الأسلحة الثقيلة من قلب المدن ومناطق الصراع، التي ستبقى في مداها المجدي، لكونها ستوضع في أماكن قريبة منها، سيبلغ أنان ومراقبه أنها معسكراتها الأصلية التي كانت دوما. بذلك، سيكون ممكنا استعمالها من جديد عند الضرورة، في حال اتسع التمرد من جديد وصار من الصعب احتواؤه بقوى الأمن والشبيحة، ويرجح أن تنجح قوى القمع في تغطية البلاد وشل حركة المواطنين بواسطة بنادقها الرشاشة، حسب ما حدث في معظم الحالات إلى الآن. إذا حدث هذا، أمكن إبلاغ كوفي أنان بأن النظام ينفذ مهمته، بينما يبقى الوضع تحت السيطرة وتتم تهدئته، بعد أن تكفلت الحملات الأمنية بسحق كتلة بشرية هائلة من المتظاهرين أخرجت من الحراك، فلا شيء يمنع أعداد القوى الأمنية الكبيرة وأسلحتها من السيطرة على الناس وردعهم إن نجحوا في الوصول إلى الشارع، بمعونة العساكر والجيش إن كانت هناك حاجة إلى ذلك.

لن يتقيد النظام بهذا البديل، لأنه سيجد نفسه من جديد أمام الحركة الشعبية، كما تؤكد أدلة كثيرة أهمها استمرار المظاهرات والاحتجاجات في المناطق التي احتلها النظام وروعها ودمر مقومات وجود المواطنين فيها!.. إن تجدد الحراك فلن يكون هناك وقف لإطلاق النار، وسيقتصر الأمر على تعديل طريقة تنفيذ الحل الأمني: وسيعتمد النظام حلا أمنيا يقوم على إطلاق النار بشكل جديد.

هناك سيناريو آخر، يأخذ في الاعتبار أن النظام يركز في هجومه الراهن على الجيش الحر وقواعده الاجتماعية ومصادر تعبئته، واعتقاده أنه يحقق تقدما جديا خلال القضاء على تشكيلاته الرئيسة في مختلف مناطق انتشارها، وأن من غير الجائز توقفه الآن، لأن ذلك سيمكن الجيش الحر من إعادة تنظيم وحداته وتطوير سلاحه وتوسيع عديده. في هذا الحال لن يتوقف إطلاق النار أيضا، بل سيتسع وسيستمر ويتصاعد.

في الحالتين، يستبعد أن ينفذ النظام تعهده تجاه أنان، وسيبذل جهدا إضافيا لإفشال مهمته بعد أن أفشل في الماضي المبادرة العربية ومحاولات المعارضة إيجاد حل سياسي للأزمة. ما الذي سيحدث بعد إعلان النظام رفض الالتزام بوقف إطلاق النار؟.. هل سيذهب أنان مرة أخرى إلى مجلس الأمن، لرفع سقف التفاهم الأميركي - الروسي على خطوات دولية مشتركة بصدد المسألة السورية؟.. هذا الاحتمال هو الأرجح، ولعله مما سيعزز دور أنان فيه قيام المعارضة السورية باتخاذ موقف داعم لمهمته، وموقف آخر يغري الروس بتصعيد تفاهمهم مع بقية العالم، وممارسة ضغوط على النظام كي لا يورطهم في حرب أهلية ستزداد ضراوة بينه وبين شعبه، لا بد أن تشارك فيها ذات يوم قوى إقليمية، بعد أن أعلن خاتمي أن إيران لن تسمح بهزيمة الأسد، وهدد الملا أحمد خاتمي بإحراق الخليج إن هو سلح المعارضة السورية؟

ستكون الفترة القليلة القادمة نقطة افتراق حقيقية في تطور الأزمة السورية، وستبين ما إذا كانت ستتم السيطرة عليها أم أنها ستذهب إلى مرحلة جديدة لن تكون خطيرة على سوريا وحدها، وإنما على العرب والعالم في آن معا!