النسيج السوري.. وكف العفريت!

TT

ثمة طرفة كانت وما زالت تتداول في سوريا تقول: إن كل خمسة سوريين ينتمون إلى ست ملل! دلالة على التنوع الكبير مللا ونحلا، هذا التنوع يحكم كل الجغرافيا السورية، وإن كان هناك تركيز أكبر لملة من الملل في كل جزء منها، هذا التنوع الذي صمد أمام المحتل الفرنسي ورفض أجندته التقسيمية قبل ثلاثة أرباع القرن، يتحول اليوم إلى عنصر تخويف لمآلات الغد السوري. ومع يقيننا أن الحالة متوهمة إلى حد كبير إذا بقيت بمعزل عن اللعبة السياسية، لكن ما يحدث اليوم قد جعل من الأمر محور ارتكاز لأي تفكير بشأن سوريا، ذلك أن النظام السوري يضخم هذه المخاوف ويعول عليها في لجم أي إرادة دولية بإزاحته، مثلما عول عليها طويلا في سياسته الداخلية، وقد أدرك الأسد الأب مبكرا أن هيمنة الاستبداد لا يمكن أن تتحقق من دون آيديولوجية حاكمة وفاعلة، فاستعان نظام الأب بآيديولوجية قومية صارمة تجعله صنوا للأمة الخالدة، وتجعل الخروج عليه خروجا على الأمة، مع اعتماده على سياسة طائفية في هيكلية النظام وجيشه، ليس الهدف منها خدمة طائفة، إنما الاحتماء بها، ولذلك سمح الأسد الأب للعاملين على الآيديولوجيا القومية، والنزعة الطائفية بامتيازات فاسدة أفسدت الحياة السورية قرابة نصف قرن.

السياسة الديموغرافية للأسد الأب كانت لها سمتان رئيسيتان؛ الأولى سياسة تهجير تواكبها سياسة قيد مدني، تمثلت في تهجير فئات سكانية كبيرة من منطقة إلى منطقة من أجل تغيير بنيتها الاثنية، أو تكوين تجمعات سكانية عشوائية تراكمية على أطراف المدن الكبرى، ساهمت في ترييف المدينة وتشويهها، مع تدمير التنمية في مناطق الريف.

والسمة الثانية تمثلت في السياسة الطائفية في مفاصل السلطة السياسية والاجتماعية والعسكرية، التي واكبتها سياسة أمنية جعلت من المواطنة والكفاءة عنصرين هامشيين.

هذه السياسة لم تكن وليدة نزعة طائفية خالصة، إنما كان محورها ديمومة النظام الذي أقامه حافظ الأسد، وهو نظام بالغ التعقيد في بعده الخارجي، وبالغ الصرامة في بعده الداخلي، تركيبة محكمة لنظام لا يتيح لأي نقد أن يلمس بنيته الأساسية القائمة على مصادرة كل أشكال السلطة في المجتمع، حتى الثقافية والدينية، لذلك كانت كل رغبة في تخفيف تعنت هذا النظام وكبته وبطشه تصطدم دوما بإجراءات قمعية لا هوادة فيها، لا تنال فقط من تحوم حوله الشبهات، إنما تنال حتى من يظن أنه قد يبدي أدنى اعتراض، وتمتد لتطال كل أقربائه ومعارفه الذين يبادرون إلى التبرؤ منه خوفا من الأذى، وخاصة بعد الأحداث التي عاشتها سوريا نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من القرن المنصرم، بلغ إذلال الوطن والمواطن والتنكيل بهما درجة لا حد لها، في ظل سياسة طائفية بامتياز، لم يكن القصد منها خدمة الطائفة، إنما حماية الديكتاتورية.

في هذا الصدد كانت السياسة المزدوجة للأب تتمثل في تنمية المنطقة الساحلية، وتغيير البنية الديموغرافية للمدن الساحلية، من جهة، ومن جهة ثانية الدفع بمجموعات سكانية كبيرة من قرى الساحل السوري إلى المدن الرئيسية في الأقاليم السورية ومنها العاصمة لتشكل قوة يتم الاعتماد عليها أمام ما يهدد النظام. هذه السياسة كانت تعني إحكام القبضة على كامل الدولة السورية، دون نسيان مسألة الدويلة الطائفية التي قد تصبح ملجأ للنظام إذا فقد السيطرة على الدولة الموحدة.

وقد عمل النظام على تنمية هذه السياسة تحت شعارات نضالية وكفاحية مستعارة من الأنظمة الشمولية، فباسم محاربة الإقطاع والاحتكار تم القضاء على الطبقة البرجوازية السورية التي كانت عنصرا فاعلا من عناصر التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتم خنقها من خلال إجراءات متداخلة ومعقدة ظاهرها تأميم النشاط الاجتماعي والاقتصادي، وباطنها إحلال طبقة برجوازية انتهازية حديثة محل البرجوازية التاريخية التقليدية. هذا الإحلال التعسفي والمنهجي أثر في منظومة القيم الاجتماعية والثقافية، فتحولت من طموح النهضة والتنمية، إلى خلق حالة استهلاكية دمرت الطبقة الوسطى، وتاجرت بأحلام الفقراء، ليصبح المواطنون مجرد أتباع في قطاعات عامة وخاصة لا هم لها سوى تحقيق نزعات الفاسدين على حساب الجماهير الغفيرة. وباسم محاربة الطائفية مارس النظام سياسة طائفية واضحة تماما ليتحول مفهوم محاربة الطائفية من رفض البعد الطائفي لهذه السياسة إلى رفض الاعتراض على البعد الطائفي. وصل الأمر إلى حالة مريرة لم يخجل أحد إعلاميي السلطة من تفسيرها تفسيرا عجائبيا، عندما قال: إن النظام في سوريا ليس بطائفي، لأن البنية الطائفية لأي نظام تقتضي أن تكون السلطة بيد الطائفة الأكثر عددا، بينما هي في سوريا بيد طائفة تمثل أقلية في المجتمع السوري!

الأسد الابن الذي ورث الحكم بترتيب عائلي وأمني، كان بداية يفتقد عنصرا أساسيا من عناصر هيمنة الأب، والمتمثل في أن الاستيلاء على السلطة كان إنجازه الشخصي. لم يكن بمقدور بشار الأسد أن يهيمن بطريقة مماثلة بطبيعة الحال، فالعائلة حاضرة في سدة الحكم، وكان لا بد لها من مرجعية تحصنها من صراعات بينية، وبالطبع لن يكون هناك بديل عن المرجعية الطائفية، وهي مرجعية مزيفة لأنها لا تعتمد على الحريصين على مصلحة الطائفة، إنما على الفاسدين الكبار فيها.

استفحلت السياسة الطائفية في عهد بشار الأسد، بسبب تحول أساسي في بنية النظام يتمثل في أنه كان نظاما يلتف حول الأسد الأب، إلى نظام أصبح في خدمة طبقة أوليغاركية محدودة متمثلة في العائلة (الحاكمة) ودائرة أمنية واقتصادية ضيقة محيطة بها، استأثرت بالهيمنة على الاقتصاد. وتحول الفساد من وسيلة داعمة لبقاء النظام، إلى هدف وغاية يتم استخدام النظام كوسيلة لتنميته، فالأسد الأب كان يستخدم الفساد لدعم سيطرته المطلقة ومركزيته، بينما يستخدم نظام الابن السلطة في خدمة فساد دائرة ضيقة تتسنم هذا النظام، وفي كلا الحالين كان انتشار الفساد في المجتمع سياسة دؤوبة، وكان كل من يرفض الفساد يشك في أمره وسرعان ما يعزل من منصبه مهما كان مؤهلا. وهذه السياسة مورست في كل جوانب المجتمع السوري، حتى الثقافية والفنية والدينية والتربوية... إلخ.

رغم ادعاء النظام بأنه يحارب الطائفية على مدى أربعة عقود ونيف، أظهرت بداية الحركة الاحتجاجية الوجه الطائفي الذميم للنظام، إذ سرعان ما روج أن هذه الحركة الاحتجاجية هي حركة طائفية، مع أن الوقائع فيما بعد كذبت فريته هذه، إلا أنه نجح إلى حد كبير في التجييش الطائفي ضد ثورة السوريين على الفساد والاستبداد، ونجح أيضا في تحييد طوائف وقطاعات كبيرة من الشعب السوري، وما زال يدفع الأمور بهذا الاتجاه، لأنه يدرك أن هذه الأمور فقط قد تخلصه من مأزقه، أو تجد له بديلا لا يقصيه عن السلطة. مع استمرار الحركة الاحتجاجية، وما رافقها من شبه انهيار اقتصادي وعزلة دولية وتصدعات في بنية السلطة، وجد النظام نفسه أمام التمهيد لخطوة بديلة تتمثل في الاستئثار بجزء من سوريا إذا لم يتمكن من استمرار هيمنته عليها جميعها، وبوادر هذه الخطوة ظهرت بوضوح خلال الشهرين الأخيرين، وذلك من خلال تركيز حل قمعي تطهيري في منطقة حمص وقرى حماه والساحل، بحيث تنقلب المعادلة الطائفية لصالح الطائفة التي استخدمها طوال الوقت. لذلك هو يخلي البلدات والمدن من سكانها، ويغلق الحدود أمام النازحين، لكي يتوزعوا في أنحاء أخرى من الأرض السورية، بدلا من اللجوء إلى دول لا بد أنها ستعيدهم إلى بيوتهم. وثمة سياسة إقليمية تتجه بهذا الاتجاه، فتركيا التي تحمست وأطلقت وعودا وتهديدات متشددة إزاء الحملة الأمنية للنظام، تراجعت عن كل مواقفها، وهي اليوم تساعد النظام من خلال عزمها على تنفيذ خطوة هامة، كانت ستكون ذات أثر كبير لو أنها نفذتها بداية الثورة السورية، وكانت ستوفر الكثير من دماء السوريين وتبقي الثورة سلمية مائة في المائة، لأنها كانت ستوفر ملجأ للجنود الذين ينشقون عن النظام رافضين أوامره في قتل الشعب، ولا شك أن هذا الملجأ كان سيؤدي إلى انشقاق الأغلبية في هذا الجيش، إضافة إلى انشقاق كبير في صفوف النظام ومؤسسات الدولة... أما اليوم فإن هذه الفكرة الإيجابية قد تتحول إلى فكرة مدمرة، لأنها قد تعني إيجاد ملجأ للمهجرين قسرا من مدنهم وبلداتهم، في أجواء شبيهة بفلسطين 1948 وتهجير الفلسطينيين منها إلى دول الشتات بناء على وعود العودة القريبة، فخطط النظام العسكرية تختلف من منطقة إلى أخرى بحسب هذه الرؤية، ففي مناطق مثل درعا ودير الزور وإدلب وحماه وريف دمشق تعمل على الحصار والقمع والتنكيل، بينما في حمص وريف حماه والساحل تعتمد على القصف العنيف الذي يدفع السكان إلى هجرة مدنهم وبلداتهم.

هي مغامرة غير مدروسة لنظام مستعد لقتل الشعب في سبيل بقائه أو استئثاره بقسم من سوريا، وهي مغامرة؛ لأنها تفتقد الرؤية الواقعية، فالساحل السوري متواشج مع الداخل، وما زالت الطائفة التي يعول عليها أقلية في معظم مدن الساحل، إضافة إلى أن الساحل انتفض عليه منذ بداية الحراك الاحتجاجي وبقوة، كما أن رغبة النظام في إنشاء دولة طائفية ستصطدم بكل تأكيد برفض واسع داخل الطائفة بحد ذاتها، فهي وإن كانت أكثر الطوائف تأييدا له، لن ترضى أن تكون تحت سلطته لوحدها. هي مغامرة لن يتمكن النظام من تحقيق مآربه وراءها، لكنها في الوقت نفسه قد تشعل حربا أهلية مديدة في بلاد عانت أربعة عقود من الاستبداد والإفساد والقمع والكبت والتدمير المنهجي لبنية المجتمع. لا شك أن كثيرا من دول العالم المسايرة لرغبات الكيان الصهيوني ستؤيد فكرة التقسيم وتدعمها، لكنها بالمحصلة لن تصمد مهما طال زمن الصراع.

الديموغرافيا السورية كانت على الدوام على كف عفريت، وقد أخفق عفريت الاستعمار في دفعها إلى التقسيم ذات يوم، عندما تصدى له الوطنيون الذين عملوا من أجل الوطن ومكوناته، فهل يتمكن عفريت السلطة اليوم من تقسيم الوطن السوري ودفع البلاد إلى أتون صراع مديد لا يبقي ولا يذر؟... أعتقد أن خطط النظام تذهب باتجاه التقسيم، إلا أن للشعب السوري رأيا آخر يلجم المغامرات الطائشة والرغبات السلطوية الفاسدة.

* كاتب سوري