مؤهلات مرشح الرئاسة

TT

المتفائل يقول الغد سيكون أفضل، وفي مصر اليوم تجد الأمس أفضل مما تتوقعه غدا.

الأسبوع الماضي ظننت بلوغ الحضيض بفقدان الذاكرة الجماعية بنسيانها دستور 1923 المفصل على مقاس مصر (ونعتذر عن خطأ مطبعي بكلمة «مادتا» مرتين بدلا من «مواد» الدستور من 24 إلى 28 ومن 29 إلى 32)، لكن متابعتي لمناقشات الثوار، و«6 أبريل»، والليبراليين محتجين على ترشيح مصريين للرئاسة، أظهرت عمق كارثة التشوش الفكري وغياب منهجيته.

خذ حالة مرشح تغزو ملصقاته كل بوصة مربعة (ثابتة أو سائرة) مما حولها لنكات على أطراف الألسنة والأقلام وريشات الكاريكاتيريست.

الثوار لا ينتقدون خلو دعايته الانتخابية من تفاصيل برامج إصلاحات اقتصادية ودستورية بقدر انشغالهم بما إذا كانت أمه تحمل جنسية أميركية!

احتجاجات أهدرت وقت وجهود وأموال وزارة الداخلية والمحكمة الإدارية للتأكد من المعلومة، وكان مصير الأمن القومي معلقا بها.

مؤيدوه انشغلوا بنفي «تهمة» الجنسية الأميركية (معظم المصريين سيبادلون نصف أعمارهم بها!).

ولغياب أبسط مبادئ الديمقراطية عن الأذهان لا يعترض الثوار على تبرير جنسية أحد الأبوين أو شريك الحياة لإنقاص حقوق مواطن يدفع ضرائبه لخزينة البلاد ويلتزم بقوانينها، رغم عنصرية الشرط وانتهاكه للميثاق العالمي لحقوق الإنسان الذي وقعته مصر والتزامها بتنفيذه على أرضها، مما قد يعرضها لنبذ المجتمع الدولي.

التجربة العملية تضع مسخرة شرط الجنسية في مزبلة التاريخ.

مؤسس الدولة المصرية الحديثة محمد علي، كان ألبانيا تمصّر باختياره. ولحماية مصر ومصالحها، قاد ابنه الجيش ضد الدولة العثمانية التي حمل جنسيتها، وشيد أبناؤه الحضارة الحديثة وتوسعوا بحدودها إلى منابع النيل.

الذين خربوا مصر وفاق تعداد السجون السياسية في عهدهم تعداد الأكاديميين وأهدروا دماء المصريين في حروب بدأوها وأضاعوا نصف وادي النيل كانوا ضباط انقلاب 1952 المصريين أبا عن جد.

وتجد المسخرة في جدل مرشحي رئاسة يتخذون من الإسلام مرجعية سياسية (وليس أخلاقيا بالتزام الصدق ورفض نفاق وكذب «التقية»)، سواء مرشح الإخوان، أو من استقل عن الجماعة - ولم يعلن طلاقه الذهني من الزواج الكاثوليكي لفلسفة تبرير العنف والقتل والاضطهاد في أدبيات مؤسسيها كقطب والبنا.

مؤيدو مرشحي «الإسلام هو الحل» يبحثون عن القشة في أعين الخصوم لغياب فضائل سياسية أو خبرة اقتصادية لمرشحيهم، وكفاية أنهم «ناس بتوع ربنا» ببرامج رتوش تبالغ في حجم «زبيبة الصلاة» في صورهم.

برامجهم الانتخابية غامضة تغيب عنها مشاريع الإصلاح الاقتصادي أو الدستوري، وأكثرهم عنصريون يرفضون المساواة بين المصريين (رغم مراوغة مرشح الإخوان في برنامج «90 دقيقة» بدل إجابة مباشرة بشأن المساواة، تأكدت طائفيته وعنصريته باستشهاده بما ادعى أنه أحاديث إسلامية تحرم شغل غير المسلم أو المرأة لمناصب سياسية).

وبدلا من تسليط الضوء على سلبيات مرشحي هذا التيار يركز الثوريون احتجاجهم على التمويل الأجنبي، أو الانتماء لتنظيم عالمي لا يعترف بالقومية المصرية، أو دعم الساسة الأميركيين للمرشح أو التزام الإخوان بالسلام مع إسرائيل.

وتهمة احترام معاهدة وقعتها مصر عام 1979 يلقي بها الثوار، ليبراليين أو من حركتي «6 أبريل» و«كفاية»، في وجه عمر سليمان لأنه كان مسؤولا عن الأمن القومي المصري كوزير للمخابرات.

كراهية غير منطقية أو عقلانية لجيران، تربطهم بمصر معاهدة سلام واتفاقيات تجارية، يكنها قسم كبير من الثوار الملوحين بالحرية ويقولون إنهم طلائع الديمقراطية.

فلا يمكن أن تكون ديمقراطيا وطنيا وترفض السلام؛ فالبديل حرب تهلك مواطنيك وتخرب الاقتصاد. ولا يمكن أن تكون ليبراليا إصلاحيا تؤمن بالدستور وترفض احترام قانون ينتهكه إلغاء معاهدة سلام.

وبدلا من مناقشة ما يؤهل المرشح ليقدمه إيجابيا لمصر، يطلق الثوار الليبراليون تسميات حنجورية كـ«الفلول» (ما هو تعريفها قانونيا؟)، أو يلوحون بماضيه المهني أو عدد مرات قضائه الحج أو العمرة!

التربة الذهنية المصرية اليوم لا تسمح بنمو الديمقراطية. ليس لجينات المصريين فقد نمت بساتين الديمقراطية البرلمانية (1922-1954) بضعة عقود بعد مرور محاريث محمد علي ورفاعة الطهطاوي. أرض اليوم لا بد من تطهيرها من ألغام انقلاب 1952 قبل مرور محراث التطور.

جنرال عسكري مسؤول عن المخابرات غالبا ما لا تكون الديمقراطية أو الليبرالية ضمن آلياته الفكرية. فذهنه مبرمج على تنفيذ الأوامر لا مناقشتها، وقد نضع علامة استفهام على أساليب التنفيذ، لكنه من الخبل التشكيك في وطنيته. فحمايته معاهدة السلام كركن من استراتيجية الأمن القومي كانت تنفيذا لسياسة دولة التزمت استراتيجيا بالسلام، وهو نجاح مهني يضاف إلى ملف مؤهلات الترشيح للرئاسة. فرغم انتشار الفساد في كثير من أركان نظام حسني مبارك (بتعطيل القوانين وبانشغال القضاء بمنع الفن باسم الدين وبتطليق مبدعين من زوجاتهم بتهمة الإلحاد)، لا ينكر عاقل أهم إيجابيات رئاسة مبارك (مقارنة بسابقيه من نظام يوليو/ تموز) كعدم فقدان أراض أو خوض مصر حروب الغير (المشاركة في تحرير الكويت - بلا خسائر أرواح - كانت استراتيجية بارعة من أجل مصالح مصر الإقليمية والعالمية).

هناك عسكريون لم يشمل تدريبهم المهني أو تفكيرهم ديمقراطية العمل السياسي، لكن الممارسة جعلت منهم ساسة أفادوا بلدانهم، وعلى سبيل المثال لا الحصر: دويت أيزنهاور في أميركا، وعازر وايزمان، وإسحق رابين (من مهندسي السلام مع مصر والأردن وفلسطين).

وأهمهم، كقدوة للمصريين، مصطفى كمال أتاتورك، فلم يكن ديمقراطيا أو ليبراليا، لكنه (اقتداء بمحمد علي) وظف إمكاناته العسكرية وخبرته المهنية واحترام الجيش له لتشييد سد أمام تيار التخلف، وفرض العلم والحداثة كعقيدة ألحقت مجتمعه بالعالم المتحضر، وتشدد في تطبيق القانون، فتطور المجتمع التركي طبيعيا نحو ديمقراطية الليبرالية التعددية البرلمانية.

ومع التخلف السياسي الديمقراطي للنخبة الثقافية، فإن مصر في أشد الحاجة إلى وطني من المؤسسة العسكرية، نجح في حماية الأمن القومي (وتمتع بمرونة وذكاء العمل الدبلوماسي غير المعلن)، مما يثبت القدرة على تعلم الجديد والتأقلم مع المتغيرات، كرئيس يؤيده الجيش بخبرة عملية في إبقاء خفافيش الظلام في جحورها. تجربة الثورة ستلزمه بممارسات الديمقراطية، وقوته ستدعم القانون واستقلال القضاء (بدلا من شغل المحاكم بتشريعات التحليل والتحريم) لموازنة تيار الظلام والتخلف المتحكم برلمانيا. وإذا لم يدعمه الثوار الليبراليون الديمقراطيون لإنقاذ مصر من الانزلاق إلى عصور محاكم تفتيش القرون الوسطى، فلن يفيقوا من غيبوبة رفض «الفلول»، إلا متدلين من أعمدة الكهرباء مثلما جرب «شهداء» الديمقراطية في أفغانستان وإيران.