لقاء إسطنبول النووي.. تبادل هدايا أم تقاسم جديد للأدوار؟

TT

اللقاء الخامس بين إيران ومجموعة 5 + 1 الذي عقد في إسطنبول - بعد مضي أكثر من عام على اجتماع قصير فاشل، أعقبه تبادل الاتهامات والتهديدات - كان لا بد أن يتم، لأن جميع الفرقاء المعنيين، بمن فيهم تركيا، يحتاجون إلى فرصة من هذا النوع تعيد إليهم الثقة بالنفس، وتساعدهم على استرداد بعض المعنويات المتدهورة بسبب التوترات الإقليمية التي قلبت الحسابات رأسا على عقب.

رغم أن الحديث عشية انتهاء المحادثات كان يدور حول الأجواء البناءة وإيجابية المواقف بالمقارنة مع اللقاءات السابقة، فإن تركيا كانت تشعر بأن الشركاء الإيرانيين خذلوها بعد أكثر من 6 سنوات كاملة على خط وساطة، دفعتها في أكثر الأحيان للابتعاد عن مواقف حلفائها الغربيين إلى درجة القطيعة. اجتماع إسطنبول بدا فاترا وكأنه يُعقد لمجرد رفع العتب أو محاولة إنقاذ العلاقات التركية - الإيرانية المتراجعة. المشهد كان لافتا حقا؛ فإيران وروسيا اللذان يفترض أنهما يجلسان في طرفين متقابلين اليوم هما شريكان وحليفان قويان للرئيس الأسد. إيران قدمت للغرب الهدية التي يريدها بتعهد علني رسمي حول سلمية نشاطاتها النووية، والتزمت بفتح الأبواب أمام المراقبين الدوليين، والغرب رد التحية بقبول الجلوس إلى طاولة الحوار قبل أن يحصل على ضمانات كافية حول سلمية الملف النووي الإيراني.

قرار مجلس الأمن الدولي بإرسال المراقبين إلى سوريا، الذي صدر بالإجماع وأعلن عنه خلال لقاء إسطنبول كان حافزا آخر شجع المتحاورين في إسطنبول لقول شيء ما مغاير للمرات السابقة. واللقاء في إسطنبول الذي كنا نراهن على إلغائه أو فشله جاء بمثابة هدية تقدم لأنقرة التي توترت علاقاتها مع طهران، قبل أيام من انعقاده، وبعد زيارة بالغة الصعوبة لرجب طيب أردوغان إلى العاصمة الإيرانية. كل ما اتفق عليه في إسطنبول هو الاجتماع بعد شهر في بغداد، وهو أيضا هدية تُقدم لنوري المالكي يحتاجها بإلحاح لتعزيز مواقفه الداخلية، بعد أكثر من أزمة سياسية وانفجار يكاد يهدد ما تبقى من وحدة العراق.

اللقاء يكاد يكون هدية للرئيس الفرنسي ساركوزي ومحاولة تغيير استطلاعات الرأي التي تتحدث عن تراجعه وصعوبة بقائه في الإليزيه. هو هدية للروس الذين لعبوا دورا دبلوماسيا في السر لا يقل عن الدور التركي من أجل إقناع إيران بعدم تفجير هذا اللقاء، وسط الظروف الصعبة التي يعيشها شريكها في دمشق.

إيران تصر على تقديم نفسها وكأنها الفائز الأكبر الذي ألزم الغرب بالتراجع عن مواقفه السابقة، وبات يسلم بحقها في الاستفادة من التكنولوجيا النووية، لكن الاتفاق على التحضير لطريقة لإجراء المباحثات تمهيدا للاتفاق على جدول أعمال أولي هو أهم ما أنجز في إسطنبول.

فالمجموعة الغربية التي تحاور طهران منقسمة على نفسها إلى 4 أقسام؛ أوروبي وأميركي وروسي وصيني، مصالحهم تتباعد وتتقارب حيال إيران بحسب علاقاتهم التجارية معها، أو بحسب مواقفها الإقليمية والدولية. والمتابع للإعلام الغربي والإيراني بعد اجتماع إسطنبول يرى أن كل طرف يقدم الصورة التي تناسبه وتعزز مواقفه ومقولته وتحوله إلى المنتصر الأول الذي فرض رأيه على المحادثات.

التصلب الأميركي - الإيراني في رفض الحوار المباشر وحديث الرئيس الأميركي أوباما عن الفرصة الأخيرة رسالة تصعيد تقطع الطريق على كل التحليلات المتفائلة حول اللقاء.

الهم النووي الإيراني الذي كان يقلق الغرب قبل 15 عاما يتراجع لصالح قضايا ومسائل أخرى تفرض نفسها، حتى إن الموقف الإسرائيلي نفسه بات أكثر ليونة وتساهلا يوحي بقبول إيران الجارة النووية مقابل منع سقوط أنظمة كنا نعتبرها، حتى الأمس القريب، عدوة له، وفي حالة حرب معه.

الأسد كان الحاضر الغائب عن طاولة الحوار التي أعدت في إسطنبول بين إيران والغرب. والورطة السورية ستأخذ مكانها دائما خصوصا بعد هذه الساعة بقوة في كل حملة أو خطوة سياسية ودبلوماسية تقدم عليها الأطراف المتعاملة مع الملف النووي الإيراني، فدمشق وطهران نجحتا في دمج هذين الملفين إلى درجة التصلب والتشدد. فبينما كان الجميع منهمكا في أجواء لقاء إسطنبول، كان الإعلام التركي يتناقل أخبار احتجاز سفينة أخرى كانت في طريقها إلى السواحل السورية لتقديم شحنة من الأسلحة الإيرانية للنظام السوري.

بقي أن نقول إن المتحاورين في بغداد سيتحملون بعد شهر مسؤولية دفع الكثير من القوى العربية والإسلامية إلى دخول سباق التسلح النووي هذا ملزمين، دون أي خيار آخر لهم، فهذه القوى لن تسمح (في رأينا) بالمس بلعبة التوازنات الإقليمية على هذا النحو، إرضاء لطرف على حساب طرف آخر أو محاولة التستر بورقة توت اسمها «سلمية الأبحاث النووية»، وهو الكلام نفسه الذي قالته لنا إسرائيل في مطلع الستينات. وهناك أصوات في إيران ما زالت تردد أن أنقرة لن تحتفظ بعد الآن بتفردها في وساطات الملف النووي، والحديث عن بيروت ودمشق وبغداد كبدائل سببه الأول أن تركيا انتقلت إلى خانة المغضوب عليهم إيرانيا، بسبب سياستها السورية والخليجية والأطلسية. لكن فرصنا وردود فعلنا (تركيّا)، حتى على الرغم من نجاحنا في إنجاز شيء ما، ستكون حتما غير موقف الشاب الخجول الذي ظل لأشهر يترقب اللحظة المناسبة لمصارحة ابنة الجيران بغرامه بها، إلى أن أغضبها الانتظار ودفعها لقرع بابه تسأله إمكانية ائتمانه على قطتها مساء، فهي تريد تناول العشاء مع أحد المعجبين بها.

يبدو أن أحدا لا يريد التوقف عند مضمون «الحوار النووي» الأخير بين العاهل السعودي ورجب طيب أردوغان، فالعدسات كلها كانت مسلطة على لعبة الكرات الحديدية التي شارك فيها القياديون لا أكثر.