الثورية الإيرانية.. الطور الجديد

TT

ليس من المهم الآن الحديث عن ماذا فعلت وتفعل إيران، لكن الأهم فهم الدوافع للتصعيد الإيراني وفق جملة من المعطيات العامة للنظام الإقليمي بعد الثورات، إضافة إلى ظلال الأزمة السورية التي بلغت الذروة الآن من دون أن تجد طريقها الواضح للحظة الحسم بسبب تلكؤ المجتمع الدولي لأسباب كثيرة ومعقدة لا تخص سوريا وحدها وإنما المحصلة النهائية لنتائج الثورات وما خلفته من انكسارات عميقة وجذرية في طريق التغيير للأفضل.

بعيدا عن الملف السوري فإن النظام الإيراني يدشن مرحلة جديدة بعد انتهاء مرحلة الحرب بالوكالة لينتقل إلى مرحلة جديدة تهدف إلى خلق تحالفات جديدة، واللعب بكارت التلويح بالحرب، وإعادة بعث «القاعدة» من مرقدها أو على الأقل تهيئة المناخ المناسب لذلك.

منذ أيام سلمت إيران للسلطات الموريتانية القيادي في تنظيم القاعدة أبو حفص الموريتاني (محفوظ ولد الوالد) بعد أكثر من عشر سنين من الاعتقال وبطريقة غامضة جدا، في حين أن «القاعدة» في اليمن تعيد إنتاج نفسها في الجنوب ببناء معسكرات تدريب ومرافق معيشية، ولاحقا تكوين ما يشبه الإمارة الصغيرة التي توافد إليها شباب «القاعدة» من الصومال ودول الجوار، ترافق ذلك مع إضعاف مركزية صنعاء ما بعد صالح بفعل سياسة تشتيت الجبهات، حيث تحولت المنطقة التي يديرها الحوثيون في الشمال إلى ما يشبه الاستقلال الذاتي. هذا كله يتزامن مع تحول استراتيجي في المعارضة الجنوبية وقياداتها بالخارج، والتي بدأت تغازل إيران، وهناك العديد من المؤتمرات تم عقدها بين أقطاب المعارضة اليمنية في لبنان برعاية من حزب الله.

لم يكن إطلاق أبو حفص بعيدا عن رفاقه الآخرين، وإن كان هو الأشهر بينهم. ويتحدث الباحث الأميركي «سيث جي جونز» عن إطلاق إيران لسراح أغلب قياديي «القاعدة» من الصف الأول، بما في ذلك أعضاء مجلس الشورى، أبو حفص الموريتاني وكل من سيف العدل وسليمان أبو غيث.

لن تنتهي خيوط القصة الإيرانية المثيرة مع «القاعدة» إذا ما علمنا أن السلطات السورية قد أفرجت في وقت سابق عن القيادي البارز في التنظيم أبو مصعب السوري ورفيقه ومساعده أبو خالد السوري، وليس بعيدا أن يجد رفاق «القاعدة» السابقون مواطئ أقدام في مناطق آمنة مثل صحراء مالي التي تحول النشاط المسلح فيها إلى هوية محافظة على الذات، وهو الأمر المرشح أن يطال مناطق كثيرة في العالم بدءا من سيناء والجنوب اليمني والصومال وسوريا في حال استمرت الأزمة من دون حسم، فالمعطيات السابقة تؤكد أن «القاعدة» لا تشارك في «الفوضى» لكنها تقتات عليها وتستخدمها لصالحها.

عودٌ إلى المرحلة الإيرانية الجديدة، فإنه مما لا شك فيه أن إيران لا تفكر في الحرب ولا تستطيعها، لكنها تتقن جيدا فن التلويح بالحرب عبر الاستفزاز السياسي والإعلامي، معتمدة على إعادة تعريف النظام الإقليمي العربي والخليجي عبر محاولة النفاذ إليه من خلال تحالفات جديدة.

المديح الإيراني للثورات العربية باستثناء سوريا، واعتبارها جزءا من الثورة الإيرانية الكبرى، مقدمة لتحالفات قد تعقدها إيران مع القوى الإسلاموية الجديدة التي لم تحدد موقفها إلى الآن، لكن لا يمكن الركون فقط إلى التمايز العقائدي الذي يمكن القفز عليه من بوابة المصلحة السياسية، لا سيما إذا أدركنا أن التيار العريض من جماعات الإسلام السياسي وتحديدا «الإخوان» لا يرى في إيران الخطر، بل وصرح ويصرح عدد من قادتها التاريخيين بإلهام تجربة الثورة الإيرانية، لكن اللافت أن الغزل الإيراني الآن يطال مؤسسات تاريخية عريقة كالأزهر، فقبل أيام أكد المولوي إسحاق مدني، مساعد رئيس الجمهورية الإيراني لشؤون أبناء السنة، أهمية أن تكون هناك علاقات حميمة دائمة بين مصر وإيران، كما أشاد بالأزهر ودوره التنويري وخريجيه وعلمائه في وحدة الأمة الإسلامية.

التصريحات جاءت على هامش لقاء بوفد صحافي يضم لفيفا من «الإخوان» والقوميين واليسار، وهي الفئات الأكثر استهدافا في مرحلة التحالفات الإيرانية.

هذا الغزل الإيراني يأتي على خلفية تصاعد «الهويات» الصغيرة في سياق الإسلام السني بتياراته المختلفة، التقليدي ويمثل المؤسسات الدينية والسلفية الداخلة لعالم السياسة حديثا و«الإخوان» الأكثر جهوزية لتجاوز ثنائية الشيعة والسنة لأسباب كثيرة تتصل بأفكارها التأسيسية.

هذا الغزل لم يعد سرا، فبالأمس أبدى وزير الخارجية استعداده للحوار المباشر مع «الإخوان المسلمين» بمصر لصياغة مستقبل العلاقات، وقال مصرحا «نتمنى في إيران دائما التوفيق لجميع المسلمين بمن فيهم (الإخوان المسلمون).. ونحن في إيران مستعدون لأن ندخل في أي حديث معهم إذا هم وافقوا على ذلك».

تصريحات مثل هذه سيستغلها بالطبع وكلاء إيران و«الإخوان» في المنطقة لاستخدامها كفزاعة ومحاولة ابتزاز لدول الاعتدال وعلى رأسها دول الخليج، من أجل الضغط للوصول إلى مكاسب سياسية مختلفة، فالمتعاطفون مع «الإخوان» سيطالبون بعدم التفريط في الجماعة على طريقة «أضاعوني وأي فتى أضاعوا»، أو محاولة طرح أفكار لإغراء نجوم السياسة الجدد عبر بوابة الاقتصاد، في حين أن هؤلاء لا يقولون كلمة في الإشارات السلبية التي صدرت وتصدر عن الجماعة، فجهود الوساطة أحادية الاتجاه، وهو نوع من الابتزاز السياسي المكشوف.

الأكيد أن مرحلة إطلاق أذرع «القاعدة» ومحاولة التحالف مع قوى جديدة يمكن أن تقف على الحياد بسبب انتماءاتها الآيديولوجية ومصالحها السياسية، ليست إلا بداية المرحلة الثورية الإيرانية الجديدة، والتي تلاها مباشرة اللعب بكارت التلويح بالحرب عبر الاستفزاز، وهي محاولة لعزل الخليج وإعادة إنتاج شرعية الداخل المبنية على مناوءة الغرب وتفوق الأمة الإيرانية، وهو الأمر الذي ما كان له أن يتم في حال حسمت الأزمة السورية ولم تتم إعادة صياغة النظام الإقليمي وفق تصاعد قوى الإسلام السياسي.

ويظل سؤال الأسئلة: هل سيدع المجتمع الدولي، بما فيه الولايات المتحدة القطب العالمي، المنطقة لتعيد صياغة نظامها بشكل خاص وفق الاختلال الفادح في موازين القوى الذي خلفته تجربتها العراقية، حيث تحول العراق بفضل الغياب الأميركي إلى نقطة ارتكاز للمشروع الإيراني في المنطقة؟

الاصطفاف القادم في المنطقة يشعر إيران بأنه لن يكون في صالحها، بسبب تعاظم الدور التركي، بسبب العلاقة الجيدة بـ«الإخوان»، لكن طبيعة العلاقة التركية الأميركية وحتى فهمها للصراع العربي الإسرائيلي قد يجعل القوى السياسية الصاعدة حديثا أمام مأزق خيانة شعاراتها التي كسبت بها الشارع.

المقلق هو أداء الولايات المتحدة الهزيل نسبيا، حتى مسألة قبول إيران كدولة نووية بدأت في التزايد، ويمكن قراءة ذلك في ارتباك إدارة أوباما الذي بدأ وزراؤه، بمن فيهم وزير الدفاع ليون بانيتا، يتحدثون عن العواقب الكارثية لأي ضربة محتملة لإيران، وهي عواقب كانت دول الخليج سباقة لذكرها في ذروة التصعيد الأميركي تجاه إيران.

حصر الأزمة الإيرانية في مسألة المفاعل النووي، وبالتالي ربط كل تجليات الأزمة مع إيران، به خطأ استراتيجي، فالخلاف مع إيران ليس طائفيا أبدا، ولم يكن يوما ما كذلك، على الأقل بالنسبة للتيار العريض من عقلاء المنطقة السياسيين، وإنما الخلاف الجذري هو على المفاهيم الأساسية التي تحكم سلوكها السياسي وتبعات ذلك السلوك من تصدير الثورة إلى الاستفزاز الأمني إلى التمدد الاستراتيجي، وهي أعراض لأزمة «الثورية الإيرانية».

[email protected]