المشكلة في مصر أبعد وأعمق من الدستور والرئاسة

TT

النزاعات في مصر حول لجنة الدستور وترشيحات رئاسة الجمهورية ليست شأنا مصريا فحسب، بل هي شأن عربي وإسلامي، أيضا، وبامتياز؛ ذلك أن مصر كانت وستبقى رئة العالم العربي وقاعدته الجيوسياسية، ووطن الأزهر الشريف الذي حافظ على الرسالة الإسلامية طيلة ألف عام. وما ستؤول أمور الحكم والسياسة إليه في وادي النيل من شأنه التأثير ومباشرة على مصير شعوب المنطقة بكاملها.

ولقد بات واضحا أن الإسلاميين، إخوانا وسلفيين، مزمعون على حكم مصر، وأن هناك قوى سياسية وشعبية تعارض هذا الإمساك أو الاستفراد بالحكم من قبل الإسلاميين، وتنادي بحكم مدني ديمقراطي، ومن بينها الأزهر الشريف والمدنيون والديمقراطيون والتقدميون والأقباط، والنساء في الطليعة.

مبدئيا، سوف يحسم نص الدستور الجديد والانتخابات الرئاسية المقبلة هذا النزاع السياسي. ولكنه حسم مؤقت. فما يفرض بالقهر أو الغلبة أو المناورة، لا يأتي بالوئام الوطني، وبالتالي بالاستقرار السياسي والاجتماعي.

إن مشكلة الحكم الحقيقية في مصر، وفي معظم الدول العربية والإسلامية، ليست في نصوص الدساتير، ولا في تطبيق أو لا تطبيق الشريعة. ولا في الحجاب والنقاب وطول أو قصر ملابس السياح والسائحات، بل هي في توفير الخبز والماء لعشرات ملايين الناس الذين يعيشون عند خط الفقر، وإيجاد فرص العمل للأجيال الطالعة. وهي في تزايد السكان وفي بطء التنمية الاقتصادية، التي لا تقدم ولا ازدهار ولا عدالة اجتماعية من دونها. وكلها أمور تخرج عن المعتقد أو الانتماء الديني والمذهبي، وتشكل استحقاقات مادية مطروحة في كل البلدان، وفي مصر والبلدان العربية الإسلامية، بنوع خاص. ومن قرأ تقارير الأمم المتحدة عن التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلدان العربية والإسلامية، يعرف كم شاسعة هي المسافة التي تفصل بين المجتمعات الغربية - وبعض المجتمعات الآسيوية، كاليابان وكوريا - ومعظم المجتمعات العربية.

صحيح أن الحرية والكرامة كانتا من أهم أسباب انتفاضات الشعوب العربية الأخيرة على الأنظمة السلطوية التي كانت تحكمها، ولكن البطالة وتدني مستوى الأجور والحياة، كانت، أيضا، من بين الأسباب المهمة أيضا.

وهناك معاهدة الصلح مع إسرائيل، وعملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، والعلاقات العربية – العربية، والعلاقات الإيرانية – العربية، والعلاقات بالغرب وبالولايات المتحدة خاصة، وكلها تفترض خيارات واضحة. فهل سيكون خيار الإسلاميين، إن هم حكموا، مختلفا أو معاكسا لخيار النظام الذي لعب الإسلاميون دورا رئيسيا في إسقاطه، كما يفترض المنطق السليم، بل كما يطالب به جمهورهم؟ أم أنهم سيتبعون، كما تدل تصريحات قياداتهم الأخيرة، سياسة واقعية تفرضها الظروف والأوضاع الإقليمية والدولية الضاغطة، وبالتالي يسيرون على خطى سياسة حسني مبارك الخارجية والعربية، مع بعض التعديلات الشكلية الطفيفة؟ وهل سيسكت أنصارهم وخصومهم عن هذا الانحراف عن المبادئ الأساسية للجماعات السياسية الإسلامية، إذا حدث؟!

المعركة السياسية الحقيقية في مصر، اليوم بل وفي الأشهر والسنوات المقبلة، ليست حول الدستور ولا حول صلاحيات رئيس الجمهورية، ولا حول استفراد الإسلاميين بالحكم أو إشراكهم القوى السياسية الأخرى معهم فيه، بل هي في نجاح أو فشل الحكم القادم مع الصيف في إشعار المصريين بأن شيئا ما قد تغير في حياتهم. أي في تمتعهم، قولا وفعلا، بالحريات الشخصية والعامة، أي في ارتفاع مستوى دخلهم، أي في انتعاش اقتصادهم، أي في إقبال مزيد من السياح إلى بلدهم، أي في تحسين ورفع مستوى التعليم في مدارسهم وجامعاتهم، أي في توفير الأمن في شوارعهم وأريافهم، أي في رفع مرتبات الموظفين وخاصة قوى الأمن والشرطة، وهو شرط أساسي لتحسين الأداء الحكومي، ومقاومة الفساد، وأنسنة التعامل بين الإدارات العامة والمواطنين. والمشكلة الحقيقية هي في أن تحقيق هذا كله لا يمكن أن يتم في سنة أو سنتين أو أربع سنوات. وهي الفترة التي سيحكم فيها الإسلاميون قبل أن يدعى الشعب المصري لانتخابات عامة جديدة.

من هنا، يعتقد البعض أن على القوى السياسية الإسلاموية ألا تنفرد في وضع الدستور أو تستأثر بالحكم، لأنها سوف تجد نفسها بوجه معارضة شعبية داخلية مرشحة للتصعيد، كما ستجد نفسها على خصام مع أكثر من دولة عربية وأجنبية. وبعد أن اعتاد الشعب المصري التعبير عن سخطه في ميدان التحرير وإسقاط الحكام الذين لا يرضى عنهم، فإن كل من يرشح نفسه للحكم عليه أن يعرف أنه ليس ذاهبا في نزهة ولا زعيما قائدا ولا رئيسا متنعما بمباهج السلطة وتوابعها، بل وكيلا مؤقتا عن الشعب، لخدمة مصالح هذا الشعب وتحقيق أمانيه. وما أبعد الشعب المصري، ومعظم الشعوب العربية والإسلامية، اليوم، عن حقوقها وأمانيها!

إن خيار المصريين - والعرب معهم - ليس محصورا بين الحكم العسكري - البوليسي والدولة الدينية. والمهم ليس عنوان الحكم، بل قدرته على أن يوفق بين الديمقراطية والتنمية، بين النظام والحرية، بين المصلحة الوطنية والمصلحة القومية، بين خدمة المصالح الاقتصادية الوطنية، والتعامل مع العولمة، بين المحافظة على الهوية الثقافية والتراث الديني، والمشاركة في الحضارة الإنسانية المعاصرة، أي حضارة الفضائيات والإنترنت والتكنولوجيا. إن العالم والبشرية قد تغيرا كثيرا في الثمانين سنة الأخيرة، أي منذ نشوء حركة الإخوان المسلمين. بل إنهما قفزا في الثلاثين سنة الأخيرة في التقدم العلمي، مسافة تفوق بكثير تلك التي اجتازاها خلال القرون العشرين أو الأربعين السابقة. هذا لا يعني أن علينا، كعرب أو كمسلمين، أن نتخلى عن معتقداتنا وهويتنا وتراثنا، ونتحول إلى مقلدين للغربيين في طريقة حياتهم وسلوكهم، ولكن، في الوقت نفسه، لا بد لنا من أن نستخدم بعض الوسائل ونتبع بعض القواعد والأساليب التي مكنت الدول والشعوب المتقدمة صناعيا وتكنولوجيا واجتماعيا وحضاريا، من أن تسبقنا.

إنه من الصعب التنبؤ بما ستؤول إليه الأمور في مصر، ولكن المهم ألا تتحول إلى جمهورية إيرانية أخرى، فيدخل الشرق الأوسط والعالم العربي في حروب إقليمية تدوم مائة عام، لا سمح الله.