الزعيم.. الفرد المستقل

TT

مصر «ما بعد الثورة» تعيش حالة من التخبط في غياب دستور يحدد قواعد اللعبة السياسية، ومن فقدان الذاكرة الجماعية والعجز عن تنظيم انتخابات الرئاسة، بعد استبعاد مرشحين (على يد لجنة ترشيح لا يعرف أحد من اختارها ومدى صلاحيات أعضائها دستوريا، وما هي مؤهلاتهم أصلا) أدى بدوره إلى اضطرابات ومظاهرات وخرق للقانون.

الكارثة مزدوجة الأصل: عدم احترام قوانين تتناقض بدورها مع نفسها ومع الواقع ومع روح الديمقراطية.

الجانب الثاني تدهور الوعي السياسي، ليس فقط للطبقة السياسية والمثقفين، بل لجيل كامل من المصريين (من شبوا في مدارس وبروباغندا وصحافة وثقافة نظام انقلاب يوليو/ تموز، 1952).

الوعي المنخفض يتجاوز حدود مصر بشواهد انفصام في الذهنية السياسية لمصريين (بعضهم بألقاب جامعية) مقيمين في مجتمعاتٍ احترام القانون هو أساس العمل اليومي السياسي الديمقراطي فيها كأوروبا وشمال أميركا.

كثيرون لا يزالون أسرى خرافات وأوهام القومجية العروبجية الناصرجية، أو خرافات روجتها آيديولوجية تطرف الإسلام السياسي. وكمن يفضل خرافات ودجل المشعوذين لطرد الأرواح الشريرة من الجسم بدل استشارة الطبيب، يرفض مصريون كثيرون قبول ديمقراطية المجتمعات التي هاجروا إليها برغبتهم (بعكس مصريين طردهم عسكر يوليو قسرا بعد مصادرة ممتلكاتهم).

عدم قدرة مصريين على استيعاب روح الديمقراطية والقانون في مجتمعاتهم الغربية يعود إلى معيشتهم في «غيتو» ذهني منفصل عن ثقافة يتكاسلون عن محاولة فهمها، ويكفيهم مستوى اقتصاديا وخدمات أفضل مما يتمتع به نظراؤهم في مصر.

الاجتهاد بمحاولات عرض تناول الديمقراطيات الغربية لنماذج قضائية وقانونية معاصرة، للمقارنة بتناول مثيلاتها في مصر والبلدان العربية، يراه جيل 23 يوليو من المصريين بمنظار مقلوب. المجتمعات، كالأفراد، لن تتقدم إذا لم تكتشف أن هناك سبل حياة أفضل. فمثلا يستحيل أن يرتقي الفرد بحياته إلا باكتشاف وجود سيارة أفضل، وبيت أفضل، وخدمة تليفون أفضل، مقابل الميزانية نفسها التي ينفقها على مستواه الحالي. ولهذا يجتهد قلة من الكتاب والمفكرين بطرح نماذج تعامل الديمقراطيات العريقة مع الأحداث الراهنة لتنبيه صناع الرأي العام المصريين إلى بدائل يمكن الاقتداء بها.

لكن رؤية أصحاب الألقاب الأكاديمية والمثقفين لهذه المحاولات بمنظار مقلوب تدفعهم لاتهام من قدموها «باحتقار بلدان مولدهم». التهمة بسيطة مقارنة بالخطر الأكبر الذي ينزلق إليه هؤلاء المثقفون، وهو العنصرية الدفينة في لا وعي أصحاب الاتهام، باقتناعهم بأن الديمقراطية الغربية واجهة مزيفة، وأن الغرب يكن العداء للعرب والإسلام والمصريين وبقية الأفارقة.

الخطورة لا تقتصر على سوء فهم الديمقراطية، لأن الإيمان بخرافة «زيف الديمقراطية الغربية» يقود إلى منزلق الاقتناع بأنها لا تناسب مصر والبلدان العربية والمسلمين، لأنه نفسه منزلق جدل ملالي إيران، وزعماء طالبان، وإرهابيي «القاعدة»، بتناقض الديمقراطية مع الإسلام وتقاليد المجتمعات الشرقية. وهي قناعة تجعل من احتمال تحول مصر إلى جمهورية خمينية أو إمارة شباب صومالية أو طالبانية أو حماسية خطرا حقيقيا يمكن توقعه.

الخطر الآخر تمثله العنصرية الدفينة بقبول العقل الباطن للفرد (ثم العقل الجماعي للأمة) بأن المصريين، والعرب، هم من طينة تختلف عن طينة الأوروبيين، أي لا تناسبهم (وباطنيا أنهم لا يستحقون) الديمقراطية بالنمط الغربي الذي يحترم الفرد وحقه في الاختيار وحريته وعدم التضحية به وبخياراته في سبيل ما يسمى «بالمصلحة العامة». ويمكن قراءة ذلك بين سطور تعليقات كثير من المغتربين المصريين، وقبولهم بالإسلام السياسي كنظام شمولي (في كل النماذج بلا استثناء تفرز الجمهورية أو الإمارة الإسلامية نظاما شموليا يسحق الفرد وحريته في الاختيار).

للمقارنة فإن هذا الأسبوع شهد محاكمة النرويجي أندريه بريفيك، والشواهد تشير إلى اختلاله عقليا بتنفيذ جريمة قتل 77 شخصا، بقنبلة خارج مباني الحكومة في أوسلو ثم بإطلاق الرصاص على شباب المعسكر الصيفي للحزب الحاكم كخطوة في حملة تستمر من 50 إلى 100 سنة لإصلاح المجتمعات الأوروبية. دوافع بريفيك آيديولوجية سياسية، ودفاعه سياسي الطابع (يقول إنه تعلم استراتيجية القتل الجماعي من أسلوب «القاعدة»)، ورغم طوفان السياسة فقد رفضت ديمقراطية النرويجي الانزلاق إلى الفخ الذي نصبه القاتل المخبول، ولم تتحول القضية إلى قضية سياسية. لم يحاكم بمقتضى قانون للطوارئ، رغم أن الدستور النرويجي منح رئيس الوزراء ووزارة الداخلية صلاحية إعلان حالة الطوارئ يوم المذبحة الجماعية قبل عام. بريفيك لم يتعرض للتعذيب، أو حتى صفعة من رجل بوليس، ومثل أمام المحكمة، في صحة جسمية طيبة، بملابس محترمة، كأي متهم عادي تحترم المحكمة ومسؤولوها حقوقه المدنية.

في المقابلات الصحافية قال المسؤولون النرويجيون إن الالتزام بتقاليد العدالة والمحكمة المدنية هو انتصار للديمقراطية والحرية ضد التطرف، لأن تشديد الحراسة، أو المغالاة في الإجراءات البوليسية، يعني هزيمة المجتمع بتحقيق أهداف صاحب الآيديولوجية المتطرفة المعادية لفكرة الديمقراطية أصلا. ولم نسمع بساسة نرويجيين يطالبون بإعادة عقوبة الإعدام التي ألغيت من أوروبا كلها منذ عقود.

قاض واحد قال في مقابلة صحافية إن بشاعة الجريمة وعدد الضحايا ربما قد يدفعان البعض للتفكير في إعادة عقوبة الإعدام في حالات استثنائية كهذه الجريمة. اضطر القاضي للاستقالة فورا في اليوم التالي بسبب الانتقادات العنيفة من المثقفين والطبقة السياسية والصحافة، لأن المجتمع تجاوز في نضجه التاريخي سنوات مراهقة الخلط بين الانتقام والعدالة.

فالانتقام شهوة أنجبتها الكراهية، بينما العدالة هي تعويض المتضرر.

وفهم الدوافع والحالة النفسية والتقلبات العاطفية التي دفعت الشخص إلى حافة الجنون وقتل الآخرين هو تنفيذ العدالة، بتعويض المجتمع عن خسائره بمساعدته على إيجاد سبل لتجنب وقوع أفراد آخرين في هوة الكراهية أو الاختلال العقلي السياسي.

قارن ذلك بمفهوم للعدالة بإعلان زعيم مصري سياسي بشعار «الإسلام هو الحل» أنه وأنصاره سيغتالون وزير المخابرات السابق عمر سليمان، وكل «الفلول»، إذا ترشح للرئاسة.

لا يزال أمام المجتمع المصري المعاصر طريق طويل من تطوير التعليم والذهنية السياسية وقبول العيش في إطار قانون هدفه الأساسي حماية حرية الفرد وحقوقه وواجباته. فرئيس الدولة أو رئيس الحكومة أو رئيس البلدية أو عضو البرلمان هو مجرد فرد يمنحه تصويت المجتمع صلاحية المنصب. وحتى يعاد تشكيل الثقافتين الاجتماعية والسياسية باتجاه احترام حقوق الفرد ومعاملته ككيان بذاته له خيارات مستقلة وحرة وليس نقطة بلا ملامح تذوب في محيط المجتمع، سيتساوى انتخاب الفقيه، أو زعيم حزب، مع انتخاب مهرج سيرك أو راقصة كباريه لمنصب الرئيس؛ فالثقافة السياسية القائمة ستحول «الرئيس» المنتخب إلى مبارك أو عبد الناصر آخر في زمن قياسي، فهو مجرد فرد بلا ملامح مستقلة، ونسخة كربونية من أي إفراز لسلبيات ثقافة المجتمع السائدة داخليا وخارجيا.