السياسة الأميركية والمحفز الاستراتيجي

TT

حتى اندلاع الثورات العربية (نهاية 2010 - بداية 2011) لم تكن لإدارة باراك أوباما سياسة واضحة تجاه الشرق الأوسط‍ بعد محاولة مرتبكة لرسم سياسة جديدة. كانت محاولة الإدارة، بعد صدام مع القوى المحلية التي خلفها بوش الابن وراءه، أن تهادن القوى التي تعتقد أنها مناكفة لسياساتها، مع الاستمرار في دعم لفظي لما سمي بمعسكر الاعتدال العربي. كانت قمة تلك السياسة خطاب أوباما في جامعة القاهرة، أوائل يونيو (حزيران) 2009، الذي قوبل وقتها بالكثير من الحماس من الجانب العربي، والكثير من التهكم في أوساط الصقور في واشنطن، وسرعان ما كان الصقور على حق بعد ظهور العجز التام لتلك السياسة المرتبكة عن أن تقدم أي حلول للقضايا العالقة.

قبل ذلك كان هناك محفزان تاريخيان للسياسة الأميركية‍ في الشرق الأوسط جعلا من سياستها واضحة ومقروءة بجلاء؛ الأول هو الاتحاد السوفياتي، إبان الحرب الباردة‍ والوقوف أمام توسعه، والثاني الذي جاء من بعده ما عرف بالإرهاب، فكلاهما جعل من الولايات المتحدة تحدد بدقة أن مصالحها تحبذ محاصرة نفوذ الأول والتأثيرات السلبية للثاني، وتعكف على تخصيص الموارد الناعمة والخشنة لمواجهة ذلك.

بدا أن الولايات المتحدة تفقد زخمها في المنطقة مع خفوت ذلك التهديد المزدوج، واستقر رأي الإدارة الجديدة لباراك أوباما (وهيلاري كلينتون) منذ أن بدأت تبحث - كما جاء في خطاب القسم للرئيس - عن «عصر جديد لبناء شراكة فاعلة»، على أنه ليس هناك الكثير يمكن التفاعل معه في الشرق الأوسط، خاصة بعد فشل مهمة المبعوث الرئاسي جورج ميتشل لإيجاد مخرج في القضية الفلسطينية، والصعوبات التي تلقاها الولايات المتحدة في كل من أفغانستان والعراق، عطفا على المأزق الذي تواجهه تجاه تسلح إيران وخطورتها النووية التي لا رادع لها غير أن تبقى الولايات المتحدة مراقبة ومطلقة بعض النصائح، كمثل النصيحة المعروفة عشية ربيع العرب، وبالتحديد في نوفمبر (تشرين الثاني) 2010، والتي أطلقتها هيلاري كلينتون بأن هناك خطوات إصلاحية لا بد لها أن تنفذ في الشرق الأوسط.. كلام مرسل ورسائل متناقضة.

مع الربيع العربي انتعشت آمال الولايات المتحدة في دور جديد‍، إلا أن هذا الدور لم يحدد على وجه الدقة بسبب غياب الاستراتيجية، فقد اختبأ الدور أولا خلف الحلفاء، كما ظهر في ليبيا، ويظهر عجزه الكامل اليوم في سوريا، على الرغم من الرأي الشعبي العربي الذي يعتقد خطأ أن الولايات المتحدة هي خلف كل تلك التغييرات الحادثة.

إذا كان ثمة فشل في سياسة الولايات المتحدة الخارجية فهو الذي يتمثل في عمل لا شيء، وانتظار ما تقدمه التفاعلات الداخلية من نتائج، خاصة أنها تواجه اليوم باستحقاق رئاسي قريب بعد ستة أشهر تقريبا، مما يجعل القدرة على العمل الخارجي مقيدة أكثر مما هي الآن غير واضحة، عطفا على وضع اقتصادي داخلي غير مريح.

تسرب إلى الصحافة العالمية أن هناك خطوات مختلفة في السياسة الخارجية الأميركية سوف تتخذ بعد الانتخابات الرئاسية، أي بعد يناير (كانون الثاني) 2013، إلا أن تلك التسريبات لا تعني الكثير للمتابع، خاصة في الشرق الأوسط الذي احترقت فيه أصابع المسؤولين عن السياسة الخارجية منذ فشل محاولات أوباما في القيام بفعل شيء ملموس غير الانسحاب والتراجع، فالمتوقع أن تبقى محاولاتها سطحية وغير فاعلة، وبانتظار توافق أممي قد لا يأتي! ففي غياب محفز استراتيجي فعال لن تأخذ الولايات المتحدة المبادرة، هي فقط سوف تنتظر أن تسقط في حضنها بعض الثمرات.

حقيقة الأمر أن الولايات المتحدة تجلس الآن في المقعد الخلفي حيال التأثير في أحداث الشرق الأوسط، وسوف تبقى هناك لفترة، فهي أولا غير قادرة على التأثير في الملف الإيراني، ولا في الملف السوري، غير دعم المزيد من «المقاطعة» التي أصبحت الآن ذات غير جدوى، كما قال الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، قبل أسابيع في الكويت، حيث أكد أن سياسات المقاطعة تبين أنها لا تؤثر كثيرا في الدول التي تقاطع، خاصة إن شذت دولة أو أكثر عن الالتزام بالمقاطعة، فإن ذلك يفتح - حسب تعبيره - «ثغرة ضخمة» لتسرب كل ما هو ممنوع إلى تلك الدولة!

سياسة المقاطعة هي فقط لذر الرماد في العيون التي لا تستطيع أن تكتشف المناورات الدولية، كما أن الولايات المتحدة تفتقد في الشرق الأوسط كلا من الحماس للعب دور فعال، وأيضا المحفز الجدي والاستراتيجية بعيدة المدى، حيث إن المصالح التي تريد الحفاظ عليها في موقع آمن نسبيا، أو هي غير قابلة لدفع ثمن المحافظة عليها.

هذا الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة تقدم لاعبان من أجل شغله، الأول هو أوروبا التي بدورها تعاني من مشكلات اقتصادية ضخمة، خاصة في بلدانها الأكبر الثلاثة فرنسا وألمانيا وبريطانيا، كما تقدم لشغل الفراغ روسيا، وهي تتقدم بتكتيكات مختلفة من أجل العودة بقوة كلاعب أساسي في منطقة الشرق الأوسط، واستطاعت بتكتيكاتها مع كل من إيران والصين البقاء في وسط المشهد بالنسبة لما يحدث في سوريا.

المعادلة الثلاثية التي أمامنا اليوم معادلة صعبة.. فهناك الولايات المتحدة التي ترى الشرق الأوسط صعب الفهم وصعب التأثير في مجرياته، فتأخذ مكانا بعيدا عن التأثير على الأرض، وتكتفي بالتصريحات، وكثير منها أشد ضررا من الصمت.. ومنطقة عربية شبه مفككة ليس لأهل الثقل الديموغرافي العربي تأثير فيها، بسبب انشغالهم بداخلهم المفتوح على كل الاحتمالات.. وروسيا وحلفاؤها الذين يتقدمون في التأثير بشكل أكثر جدية وفعالية، ويرفعون كل مرة ثمن تعاونهم التكتيكي.

أمام هذا المشهد فإن بقية العرب القادرين على الحراك النسبي هم دول الخليج، وهي دول حتى الآن لم تستقر على استراتيجية واضحة المعالم تجاه نفسها (دعوة الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى الوحدة)، كما أنها لم تستقر لرسم استراتيجية تجاه الآخر العربي المتحرك سريعا في الساحة من المغرب إلى الخليج.

أمامنا إذن فترة من ستة أشهر إلى عام سيكون عنوانها هو «التحرك في المكان» من دون تقدم، في الوقت الذي يستنزف فيه الإقليم اقتصاديا وتفرغ طاقته ويستمر نزيف الدم في بعض أرجائه، هذا إن حافظ الجميع على مواقعهم الحالية، بل ربما تتأخر هذه المواقع جراء الهبوب العاصف الذي سوف يأتي به صيف الشرق الأوسط وخريفه.

آخر الكلام:

الشرق الأوسط أمام حالة من السيولة غير مسبوقة: حرب في السودان، مناوشات في اليمن، صراع في سوريا، سيولة في الجبهة الداخلية المصرية، قلق في لبنان، استفزاز في الخليج، شبه انفصال في ليبيا. إن صيف الشرق الأوسط يبدو محملا بعواصف!