الثورة والثورة المضادة في سوريا

TT

كل ثورة يقابلها ثورة مضادة تثقل تقدمها وتدفع بها نحو الفشل والإخفاق التام أو الجزئي، وبالتالي إحكام سيطرة النخبة الحاكمة على السلطة مجددا بطريقة مختلفة وبشكل أشد ولفترة أطول. وانطلاقا من أن الثورة هي هدم وبناء، فإن الثورة تكتمل بانتهاء إعادة البناء وليس بانتهاء الهدم. والهدم هنا قد يكون للنظام أو للدولة، وفي سوريا الوضع أقرب إلى الدولة منه إلى النظام، فإن عمل الثورة المضادة خطير وخطير جدا. ويمكن إذا فشلت مهمته في إعاقة عملية الهدم المنوطة بالثورة، فإن عمله سيتركز وبدفع كبير في إعاقة عملية البناء المأمولة من الثورة أو على الأقل حرفها عن مسارها بأي ثمن، وهنا تكون المعركة الحقيقية بين قوى الثورة والقوى المضادة لها، وهذا ما تشهده مصر الآن أو ما ستشهده في المستقبل القريب.

وقوى الثورة المضادة قد تكون قوى عضوية أصيلة في الوطن كالتنوع الطائفي للبلد. بمعنى أن التنوع الطائفي في سوريا بحد ذاته هو أهم القوى التلقائية المضادة للثورة. فالشد الطائفي ضد النظام ومعه في آن واحد يربك حركة الثورة. وقد تكون القوى المضادة قوى حركية دخيلة ناشئة (وإن كانت هرمة) ذات تأثير فكري وسياسي واقتصادي واجتماعي، وهي غالبا ما تكون من النخبة التي قامت الثورة ضدها، وممن أيدها ودعمها واستفاد منها ومن سلطتها وسياستها من برجوازيين ومنتفعين. وهذه النخبة أتت أصلا نتيجة لثورات آيديولوجية سابقة، مثل القيادات البعثية والعسكرية في سوريا، حيث أتت بها ثورة الثامن من مارس (آذار) عام 1963.

هذا حال كل الثورات بأن يكون لها قوى مضادة، فالثورة السورية لم تكن الاستثناء أبدا، لكن ما يجعل الثورة السورية استثناء هو أمران اثنان:

الأول هو المعارضة السياسية الرسمية التي لا تزيد الثورة السورية إلا تكلفة على المستوى الميداني وإخفاقا في الجانب السياسي، مما يجعلنا نعتبرها من القوى المضادة للثورة، لكن غير المباشرة، فالثورة السورية تحولت بفضل الاحتيال السياسي العربي والغربي عليها، وبفضل الخطاب السياسي الانهزامي وغير الناضج للمعارضة السورية إلى تمرد مسلح ضد نظام شرعي قائم. وكلمة تبقى للتاريخ هي أن الجناح السياسي للثورة السورية كان أقوى بكثير قبل تأسيس المجلس الوطني السوري مما هو عليه الآن.

النظام السوري رفض التوقيع على المبادرة العربية قبل تعديلها، وهو وقتئذ كان الطرف الأضعف ميدانيا وسياسيا، واضطر إلى افتعال تفجيرات إرهابية ونسبها للثوار. وهو بذلك حصل على بعض المكاسب السياسية عربيا ودوليا تجلت في تقرير الجنرال الدابي للجامعة العربية وفي تقرير الجامعة العربية لمجلس الأمن والمتضمنين وجود جماعات مسلحة في سوريا تقتل الشعب وتقاتل النظام. فلماذا المعارضة تقبل بكل المبادرات والقرارات العربية والدولية دون تحفظ أو اعتراض؟

الثاني هو حجم القوى الخارجية المضادة للثورة وبشكل مباشر، وعلى رأسها الجامعة العربية والأمم المتحدة والقوى الدولية كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والصين، والإقليمية كإيران وتركيا وجل الدول العربية. هذه القوى الخارجية طغت كثيرا على القوى الداخلية في سوريا (بشقيها الأصيل والدخيل) من حيث تأثيرها على تقدم الثورة. وهذا ما جعل معركة الشعب السوري ضد النظام معركة كبيرة تحفها مخاطر كثيرة أشدها على الإطلاق هو الاحتيال على الثورة من قبل القوى الخارجية المضادة للثورة.

لو أرادت أو استطاعت الدول العربية والإسلامية والأجنبية إنقاذ القدس المحتلة من تهويدها على يد إسرائيل، وإنقاذ بيروت الجريحة من تدميرها على يد حافظ الأسد وشارون لأنقذوا سوريا الآن من حرقها وأهلها على يد بشار الأسد.

لقد نجحت هذه القوى بالاحتيال على الثورة السورية، حيث تم تحويل صورة الثورة إلى نزاع مسلح بين طرفين، بين نظام شرعي وبين متمردين عليه. فقد أصبح الثوار المدافعون عن أنفسهم متمردين، وغدا النظام المجرم في سوريا هو النظام الشرعي الذي يسعى لبسط سيطرته ورد سيادته على البلاد، وأن وقف إطلاق النار بين الطرفين هو السبيل الوحيدة لإيقاف حمام الدم المتزايد، وأن الحل السياسي والمتمثل بالحوار هو الطريق الأمثل لإنهاء الكارثة الإنسانية في سوريا، وكأنه لا توجد ثورة ولا ثوار. هذا هو صلب مبادرة كوفي أنان دون تحوير أو تجميل. فلم يعد أحد يتكلم اليوم عن الثورة السورية كأحد أزهار الربيع العربي الذي هلل له الغرب كثيرا. بل تحولت إلى أزمة سوريا تبحث في الأروقة الدولية وتتقاذفها القوى الكبرى. ولم يعد أحد ينظر إلى الشعب السوري كثوار من أجل الحرية والكرامة ضد نظام ديكتاتوري قمعي متسلط، وأن حقهم بالدفاع عن النفس حق تضمنه لهم كل الشرائع السماوية والقوانين الأرضية.

كان الأولى بهذه القوى لو أنها مخلصة لثورة الشعب السوري أو على الأقل مخلصة لمبادئها التي تتبناها وتسوقها للعالم أن تحيي وتدعم كل ضابط وصف ضابط وفرد عسكري في سوريا ينشق عن قوات النظام ويخاطر بحياته وحياة عائلته ويرفض الانصياع لأوامر قياداته بإطلاق النار على الشعب السوري الأعزل. فلا أوامر عسكرية تطاع عند تعارضها مع القيم الإنسانية. هذه هي القوانين الدولية. وهذه هي مرجعيتهم في ملاحقة ومحاكمة مجرمي الحرب وجنودهم. هم يلاحقون النازيين مهما علت أو صغرت رتبتهم. يلاحقون ويحاكمون حتى حراس معسكرات الاعتقال النازية لأنهم كانوا ينفذون أوامر قياداتهم. أما الذي رفض أوامر القتل في سوريا وانشق عن الجيش بنفسه وسلاحه ليدفع به شر قياداته المجرمة فهو متمرد. والمواطن الذي يدافع عن نفسه وعائلته هو متمرد أيضا. وعليهم جميعا الاستجابة لمبادرة كوفي أنان في وقف الدفاع عن النفس والأهل وعن الشعب. إنها ليست معايير مزدوجة فحسب، بل هذا احتيال سياسي خطير هدفه إجهاض الثورة تدريجيا. والمعارضة السورية أخطأت بقبول مبادرة كوفي أنان دون تعديلها بما يعطي الثورة السورية حقها، وتسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية. وهذا يرجعنا إلى موضوع الانهزامية مرة أخرى. فالمبادرة تساوي بين النظام المجرم وبين الشعب المدافع عن نفسه (مدنيين وعسكريين)، وهذا انتصار سياسي للنظام. لقد تعاملت المعارضة السياسية مع المبادرة من منطق سياسي بحت دون الرجوع إلى أصل المسألة. والمسألة في أصلها هي أننا في حالة ثورة وليس في موقع مفاوضات سياسية تتطلب منا المناورات والأخذ والرد. لقد قبلوا بالمبادرة لإحراج النظام علما منهم بأن النظام لن يلتزم بها، وهذا اجتهاد سياسي سليم، لكن ليس في هذا المقام.

لكن على الرغم من حضور كل هذه القوى المضادة للثورة ومعرفة مدى الأثر العكسي لها على مسار وسرعة تحقيق الثورة السورية لأهدافها، فالثورة في تقدم، وتنتقل من نجاح إلى نجاح أكبر، وصولا إلى النصر المبين. وهذا لعمري ليس من إفراط التفاؤل أو استقراء الغيب أو التعالي على الجراح بقدر ما هو تشخيص حقيقي لواقع الثورة السورية، وتحليل لشخصية رجالها وحرائرها. وواقع الحال في سوريا الآن يدل على أن الثورة لم تعد مجرد ظاهرة حركية في حياة السوريين، تشتعل بنشاطهم وتخمد بقعودهم، بل أصبحت ثقافة فردية ومجتمعية مغروزة بفكر وشخصية كل السوريين الأحرار، وما أكثرهم. وهذا ما يبشر بإحباط كل محاولات النظام القمعية وإحباط المبادرات والقرارات الاحتيالية وكل القوى المضادة لثورتهم، فهي لن تجدي نفعا بشعب «ينتظر الشهادة كما ينتظر النصر»، كما قال الناشط الإعلامي الحمصي هادي العبد الله.