رجال الأمكنة

TT

يخوض باراك أوباما المعركة التالية من أجل الرئاسة الأميركية، حيث حتى الآن أقوى دولة في العالم. ولكن، ماذا لو ولد باراك حسين أوباما في نيروبي مع أبناء عمه في أحياء الفقر، أو في القرية حيث صورته في أكواخ العائلة؟ هل المكان أهم أم الإنسان؟ ماذا لو ولد أوباما في أميركا قبل حركة مارتن لوثر كنغ؟ أو ماذا لو ولد في السويد الآن؟

الرجل أم المكان؟ لو لم يهاجر أمين معلوف إلى باريس بدايات الحرب اللبنانية، لكان لا يزال صحافيا لامعا بأسلوبه العربي الجميل. وربما لما فكّر في الرواية التاريخية أو كتابة الأوبرا لمسارح سالزبورغ. ما هي أهمية المكان؟ هل كان يمكن أن يكون نجيب محفوظ في لبنان، من دون النيل والقاهرة والفراعنة؟

لا يزال جبران خليل جبران الكاتب الثاني مبيعا في أميركا منذ وفاته عام 1930. ماذا لو كان والده غير عربيد فقررت الأم البقاء في بلدة بشري ولم تحمل أطفالها وتهاجر بهم إلى أميركا؟ ماذا لو أصبح موظف بلدية ممتازا في البلدة، يرتدي البذلة الرسمية ويحمل عصا المفاخرة ويعكف شاربيه إلى أعلى مثل قبضايات ذلك الزمان؟ ولكن، هل المكان وحده هو المهم؟ كم لبنانيا هاجر إلى أميركا منذ نهاية القرن التاسع عشر؟ لماذا ليس هناك سوى جبران واحد؟ كانت «الرابطة القلمية» في نيويورك تضم عددا من السوريين واللبنانيين. وبقي من الأسماء جبران وميخائيل نعيمة. الثاني ترجم أيضا إلى الإنجليزية وظل مغمورا فيها. وكان أمين الريحاني أول من وضع كتابا بالإنجليزية (كتاب خالد) لكنه لم يترك أي أثر، كما كتبه وكتب نعيمة في العربية. أين أهمية المكان إذن؟

ماذا لو صار هنري كيسنجر أستاذا في بلده ألمانيا ولم يهاجر إلى أميركا، وهارفارد؟ ولو لم تهاجر مادلين أولبرايت من تشيكيا؟ ماذا لو بقي المسرحي الروماني أيونيسكو في بلده رومانيا؟ هل اللغة إذن هي الوطن كما يقول شاعر البرتغال، فرناندو بيسواه؟ أنا موطني اللغة البرتغالية وليس البرتغال، كان يقول. لكن، هل يشعر أمين معلوف بأن موطنه اللغة الفرنسية حتى لو صار عضوا في الأكاديمية؟ لقد رفضت الإسكندرية أن تعتبر كبير شعراء اليونان المعاصرين، شاعرها، لأنه أقام فيها طوال حياته واستوطن اللغة اليونانية.

أعتقد أن الإسكندرية على حق، برغم أن كل شيء كتبه كفافي كان عنها وعن أشخاصها وحجارتها. ثمة شبه هائل بين سيرة وأدب بيسوا. كلاهما لم يطق مغادرة مدينته وشارعه. كلاهما دوّن بساطات المدينة بأرفع وأبسط ما يمكن من الشعر. ولكن كفافي عاش غريبا، يفكر باليونانية. لم تستطع الإسكندرية أن تكون وطنه، بل فقط مدينته. لو لحق مرحلة الهجرة لهاجر ومضى. وبينما تنكره الإسكندرية تتلقفه أثينا. لقد مضت قرون وهي من دون شاعر في مثل هذه الرقة.