من الذي يحمس المالكي؟

TT

كان واضحا منذ البداية أن قذيفة الهاون التي استهدفت السفارة التركية ببغداد في مطلع هذا العام ستؤدي إلى أضرار سياسية واستراتيجية في العلاقات بين البلدين خصوصا أنها جاءت في أعقاب تحذيرات مباشرة من قبل رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي نفسه الذي قال إن بلاده قادرة على لعب أوراق مماثلة في تركيا نفسها إذا ما استمرّت في سياسة التدخل في شؤون بلاده على هذا النحو. والتلاسن الأخير بين رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان والمالكي جاء ليكون القشة التي باتت تهدد دبلوماسية تصفير المشكلات مع بغداد والتخلي عن الكثير من العقود والاتفاقيات والتنسيق الأمني وحل المشكلات أمام طاولة الحوار. فالحديث انتقل هذه المرة إلى اتهامات متبادلة للمالكي بالتحريض وتأجيج الطائفية والمذهبية والعدائية، ورد قوي وفوري من قبل أردوغان يحذر فيه من تمركز المذهبية في العراق ومن أن الإدارة السياسية بدل أن تقطع الطريق على هذا الكابوس تتبنّى سياسة تساهم في تعميمه وترسخه.

في مقدمة الأسباب التي تقود إلى توتر العلاقات بين أنقرة والمالكي ووصولها إلى هذه النقطة يأتي:

- الموقف الأخير للمالكي حيال الأزمة السورية الداعم للرئيس الأسد بعدما كان قبل أشهر يسلم الأتراك ملفات تثبت تورط دمشق في التفجيرات التي تشهدها المدن العراقية. فالموقف العراقي هذا المشابه للموقف الإيراني يعني إضعاف الموقف التركي في الموضوع السوري وترك تركيا وحيدة تتحمّل العبء الأكبر.

- فتح تركيا الأبواب على مصراعيها أمام الزعيم السنّي ونائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي الذي يطارده المالكي وحيث يرى الأتراك في هذه الخطوة استهدافا مباشرا لأحد أهم حلفائهم عبر محاولات عزله وتهميشه.

- وقوف أنقرة إلى جانب صالح المطلك وعدم ترددها في استضافة رئيس البرلمان العراقي النجيفي وتنسيقها المتزايد مع القوى الكردية في شمال العراق وتحديدا أجواء ما بعد زيارة بارزاني الأخيرة إلى أنقرة وتوفيرها الدعم للقوى التركمانية في العراق.

- التقارب التركي - الخليجي المتواصل وتحوله في الآونة الأخيرة إلى تحالف استراتيجي بامتياز وهو ما أزعج العديد من القوى الإقليمية والغربية والتي أرادت عبر بغداد الرد على هذا التقارب الذي ترى فيه خطوة استقلالية متزايدة تهدد حساباتها ومصالحها في المنطقة.

- الدخول الإيراني القوي على خط الأزمة العراقية وتزايد نفوذها هناك بعدما خذلت واشنطن كثيرين وبينهم تركيا بمغادرة استفزازية متعمدة تمهد للسيناريو الأقرب، تقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات تنتظر إعلان ولادتها. وهو ما يتم الترويج له على أنه النموذج المرتقب في الشرق الأوسط الجديد لكثير من الدول العربية والإسلامية القلقة من سيناريوهات مماثلة وفي مقدمتها تركيا طبعا.

داود أوغلو وفي آخر لقاء له مع صالحي، نظيره الإيراني، لم يخف انزعاجه مما يجري في العراق عندما قال إن تركيا لا تريد التدخل في شؤون جيرانها، «لكن أزمات الجيران ومشكلاتهم عندما ستنعكس سلبا علينا، لا يمكننا أن نبقى في موقع المتفرّج».

وربما ما خيب آمال الأتراك أكثر كان إعلان طهران تحركها للتوسط بين أنقرة وبغداد «لإزالة سوء التفاهم هذا»، لكن الذي حدث هو العكس تماما فالمالكي زاد من تحديه والكثير من دول الجوار التي تبحث لنفسها عن دور تسجل من خلاله بعض النقاط في رصيدها السياسي والأمني لن تفرط في فرصة من هذا النوع لتفجير العلاقات التركية - العراقية.

أصوات في تركيا بدأت تتخوف من أن يكون تحرك المالكي ضد أنقرة يندرج في إطار خطة مبرمجة بين بغداد وطهران وقعت عليها دمشق وواشنطن وتل أبيب والمستهدف الأول هو أردوغان حجر العثرة الذي يزعج هذا التكتل ويعرقل حساباته ومصالحه وإلا لكانت واشنطن مثلا استمعت إلى ما قاله وزير الخارجية التركي داود أوغلو خلال زيارته الأخيرة للولايات المتحدة حول السلوك الجديد للمالكي حليفهم المفضّل في العراق.

المالكي الذي يتهم أنقرة بأنها تتدخل في شؤون العراق يتجاهل حجم الاختراق الذي حققته الكثير من القوى الإقليمية والدولية داخل بلاده بتأييد ودعم مباشر من قبله. والمالكي الذي يتهم أردوغان بالترويج للكوارث والويلات والاقتتال المذهبي ينسى أن كبار قيادات الشيعة في العراق كانوا وما زالوا أهم ضيوف حكومة أردوغان عند الضرورة تفتح الأبواب أمامهم لعقد مؤتمراتهم وطرح همومهم وبإمكانه العودة لأرشيف عمار الحكيم ومقتدى الصدر للتأكد من ذلك.

سخرية القدر أن تزعج «سنية» أردوغان البعض في المنطقة بينما «شيعيته» هي التي كانت تزعج إسرائيل قبل أعوام. لقاءات أردوغان المطولة وحواره مع نبيه بري ووليد جنبلاط وأمين الجميل والتحضير لمؤتمر الحوار بين الحضارات والأديان في تركيا مجرد تذكير لا أكثر بابتعاد أردوغان عن المقولات المذهبية والعرقية والطائفية.

دعوة نائب الرئيس الإيراني الأخيرة للوحدة بين إيران والعراق «للرد على مؤامرات استهدافهما عقائديا» وقبول واشنطن وبروكسل الأوروبية لنقل المفاوضات إلى بغداد بمثل هذه البساطة، لن تقود أردوغان إلى تغيير أسلوبه أو مواقفه فهو مصر على المضي في مواجهته مع المالكي ومن يقدم له التوصيات والنصائح مهما كان الثمن مكلفا، حتى ولو تأكد سيناريو التقاء مصالح واشنطن وتل أبيب وطهران ودمشق وبغداد في ضرورة الإطاحة بأردوغان بعدما خيب آمالهم.