الفقه والواقع وحدود الشعارات

TT

حضرت، قبل أسبوعين، ندوة «النظرية الفقهية والنظام الفقهي»، ضمن أعمال اللقاء السنوي الذي تنظمه وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في سلطنة عمان. وحيث إنني قد شاركت في دورات سابقة أيضا فإنني أملك - من جهة نظري بطبيعة الأمر - أن أتحدث عن الندوة من حيث التوجه والمحتوى أولا. وأما من حيث التنظيم فإن دماثة أخلاق الإخوة العمانيين من جهة أولى وتشربهم للتراتيب الدولية العالية في الدقة والحزم من جهة ثانية، هما عند من يعرف سلطنة عمان وأهلها من قبيل الأوليات والحقائق المقررة.

أتحدث عن التوجه أولا، كما يبدو لي بطبيعة الأمر، فأقول إن سلطنة عمان، في ما يبدو، تحرص في ندوتها الفقهية السنوية على إشاعة وتطوير المعرفة بالفقه الإباضي وعلمائه بكيفية صريحة لا مواربة فيها ولا لبس ما دام عنوان اللقاء السنوي واضحا (تطوير العلوم الفقهية في عمان) وما دام الفقه الإباضي عنوانا للسلطنة ولاختيارها المذهبي منذ قرون تضرب في التاريخ الإسلامي بعيدا، بل إنها ترجع إلى القرون الأولى للهجرة كما هو معلوم. ولعمري إن هذا الأمر من سمات الأصالة المميزة، وإن الوضوح في الرؤية وفي الاختيار لأفضل ألف مرة من الغموض والالتباس.

والنصوص الفقهية الإباضية غزيرة، شأنها في ذلك شأن النصوص الكلامية ووزارة الأوقاف ما تفتأ، منذ السنة الثانية من تنظيم هذه الندوة السنوية، تحرص على نشر النصوص الفقهية الإباضية محققة. على أن ما يستحق التنويه في عمل السلطنة وفي نظام الندوة ليس الحرص على إشاعة المعرفة الفقهية الإباضية، فلا شيء أكثر منطقية من ذلك في بلد مذهبه الرسمي في الفقه هو المذهب الإباضي، بل إنه أمر يتجاوز ذلك.. ذلك أن من اللجنة العلمية للندوة السنوية حرص أكيد على حضور ومشاركة المذاهب الفقهية الأربعة (المالكية، الحنبلية، الشافعية، الحنفية) وكذا المذهب الشيعي الجعفري. لغة العمل هي العربية، والمشاركون يحضرون من تركيا وإيران ومن كثير من مسلمي دول أفريقيا جنوب الصحراء ومن مسلمي دول أوروبا الغربية والوسطى، بل ومن كندا والولايات المتحدة.

لا شك أن الصلة، في العمل العلمي في ندوة من الندوات التي ترعاها الدولة، تكون وثيقة، وإن خفيت، بين التوجه الرسمي للدولة والمضامين العلمية للأبحاث المقدمة في اللقاء العلمي. فأما التوجه فهو، بطبيعته، آيديولوجي وسياسي ومن العسير أن نتصور أنه غير ذلك. وأما المضامين فإن الجهة المنظمة تملك أن تشترط الدقة والجودة العلميتين، حرصا على المستوى الرصين. والحق أن الندوة السنوية، في ما ألاحظ، توفق إلى حدود معقولة في الجمع بين الأمرين، ومن ثم فهي، في ما أحسب، توفق في تقديم صورة إيجابية لما ينبغي أن يكون عليه العمل الفقهي في حياتنا المعاصرة أو لنقل، في نظرة موضوعية قدر الإمكان، إنها تجتهد في ذلك اجتهادا لا يخلو من توفيق في أحيان كثيرة، وهذه الصفة الأخيرة هي ما يحدوني إلى الحديث اليوم على النحو الذي أحاوله في الفقرات التالية.

الظاهر، من جهة النظر التي أصدر عنها، أن هنالك طريقين اثنين في النظر الجدي في العلاقة الواجب إقامتها بين الفقه (من حيث كونه التنظيم القانوني لحياة المسلمين عملا بمقتضيات الشرع الإسلامي انطلاقا من اجتهاد المجتهدين على الحقيقة) والواقع الاجتماعي والاقتصادي، بل والسياسي أحيانا، في حركية ذلك الواقع وفي تشابك مكوناته. فأما الطريق الأول فهو ذاك الذي يكون في رفع شعارات عامة فضفاضة، وفي التلويح بها عاليا بعيدا عن كل روية وتفكير في الدلالات والأسباب، وبالتالي فهي تتنكب طريق الفقه من حيث إنه تقديم الحلول العملية، الواضحة الدقيقة لمشكلات واقعية.. شعارات من قبيل «الإسلام هو الحل»، ومن قبيل «تطبيق الشريعة» من دون احتفال بالكيفيات والأسباب، بل وفي انصراف عن الواقع المعيش في تعقده وفي عسر مظاهره.

الطريق الثاني هو طريق توخي المرامي البعيدة للشارع، وهو طريق طلب المصلحة العليا للمسلمين عملا بالمبدأ الأسمى الذي هو مدار حياة المسلمين: حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله. والرأي عندي أن الطريق الأول (طريق رفع الشعارات الفضفاضة والتلويح بها) ليس طريقا خاطئا فحسب، بل إنني أدعي أنه طريق يبتعد بالفقه عن الوجهة التي هي له: وجهة الاجتهاد في تقديم الحلول العملية، أي الأجوبة الشرعية عن المشكلات التي يطرحها والوجود الاقتصادي والاجتماعي للمسلم. أما الطريق الثاني فهو، على العكس من ذلك، طريق «الفهم عن الله»، أي طريق توخي المقصد الأسمى للشارع، طريق التماس المصلحة البعيدة للمسلم، تلك التي يكون شرعا متوخيا لها من التشريع.

لا غرو أن غاية المسلم هي أن يحيا في حال من المواءمة بين ما يقتضيه الشرع وما تحمل الحياة المادية للبشر على الأخذ به. وعند المسلم الحسن الإيمان إيمان راسخ بصلاح الشرع للأزمنة كلها، وليس هذا يعني سوى شيء واحد وهو أنه من المستحيل أن يقوم هناك تضاد بين الآمر الشرعي وداعي الحياة الإنسانية في تعقدها وفي تطورها الحتمي، فتلك سنة الحياة، وهي سنة الله في خلقه، وإنما التضاد يقوم في الفهم الضيق للشرع، ذلك الذي يجعله فهما ضيقا تنسد أمامه السبل والآفاق. وبالجملة يصح القول إن مواضع التحريم تظل في نهاية الأمر معلومة محصورة، وإن ما يستدعي الفهم مجاله الحياة كلها، فهو فهم بسعة الوجود، وهو فهم متطور بتطور الوجود. وإني أدعو القارئ الكريم أن يتأمل معي هذه القولة لأحد علماء الإسلام المجتهدين على النحو الذي يكون فيه الاجتهاد التماسا للمصلحة البعيدة التي يروم الشرع تحقيقها للبشر «الشريعة حقيقة، إنما هي مجموع ما بأيدي المجتهدين كلهم لا بيد واحد منهم، ولم يوجب الله تعالى على أحد التزام مذهب معين مخصوص لعدم عصمته» (محمد الحجوي - «الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي»). والقصد عندي من إيراد هذا القول (ومثله عند كبار المجتهدين كثير) هو أن أنبه إلى بعض مناحي الخطأ الشنيع في أقوال الدعاة الذين يلوحون عاليا بشعارات فضفاضة تجعل الشريعة في حال من الحرج، وتنسب العصمة إلى قول فئة قليلة، إن لم يكن إلى فهم أفراد معدودين، والحال أن «الجماعة» هي التي يتحدث عنها الشارع فتكون يد الله معها كما هو معلوم من حديث نبوي مقطوع بصحته، وتكون لها العصمة، بموجب حديث آخر مقطوع بصحته كذلك. الاجتهاد الحق، وبالتالي الفهم عن الله، مجاله الجزئيات والدقائق، أي كل المواقف التي تجابه المسلم في حياته العملية فتستدعي حلولا شرعية تتطلب بدورها تضافر جهود علماء الإسلام من المتخصصين في الشريعة ومن أهل الملة المشتغلين بكل العلوم التي تتصل بالجود الاقتصادي والاجتماعي للمسلمين - وبالتالي الاجتهاد الجماعي.

ليس من الغريب أن يغيب، في خطاب دعاة «تطبيق الشريعة»، وزعماء «الإسلام هو الحل»، حديث الكليات الخمس التي تتوخى الشريعة حفظها، وليس من العجيب أن يغيب الاهتمام بالجزئيات والدقائق التشريعية، ومن ثم فإنه ليس من الغريب في شيء أن يبدو حملة مثل الشعارات السابقة في حال من العجز يكاد يكون تاما حين يتعلق الأمر بالقول في الدولة المدنية وفي إدارة الشأن العام على النحو الذي تستلزمه الحياة المعاصرة.

يبدو أن القول يجنح بي إلى مسالك بعيدة، بيد أن الشأن كذلك من حيث المظهر فحسب. أما في العمق فمرادي أن أقول إن الجموع العلمية إذ تتصل بالاجتهاد، أيا كانت الصعوبات التي تعترضها، فإنها تجعلنا في معترك الأحداث، في قلب الصلة بين الفقه والواقع، وهي، من جهة أخرى، تكشف عن ضعف وتهافت فقه الشعارات الجوفاء والادعاء الكاذب، وهو نقيض الفقه في الدين وضده.