الانتقال من صراع الحرب إلى تنافس السلام.. هل تعرف سلاما آخر؟

TT

مع نهاية فترة إقامته، ترك الساكن القديم البيت لسكانه الجدد بعد أن ترك فيه كمية من الأثاثات الثابتة، وكان عدم التطبيع أكثرها قوة وثباتا. والأشياء عادة، والأفكار أيضا، تكتسب قوتها وثباتها من قدرتها على حماية البشر، لذلك كان الموروث الوحيد الذي اعتز به السكان الجدد هو عدم التطبيع مع إسرائيل، لأنه يحميهم من العمل الشاق الذي تتطلبه عملية الانتقال من صراع الحرب إلى تنافس السلام. ولكن متى ظهر هذا التعبير؟ ومتى نشأت حاجة السكان القدامى والجدد إليه.

في مفاوضات السلام بين مصر وإسرائيل في كامب ديفيد والتي كانت أميركا طرفا فيها، أصر الرئيس السادات على أن تنسحب القوات الإسرائيلية إلى حدود مصر الدولية في مقابل حصولها على السلام، أي العلاقات الطبيعية بينها وبين مصر. وكان الانسحاب على مراحل، بشرط أن تبدأ هذه العلاقات الطبيعية عند انسحاب إسرائيل إلى خط العريش - راس محمد، أي أنه كان المطلوب علاقات طبيعية بين البلدين قبل أن تنسحب إسرائيل إلى الحدود الدولية. في ذلك الوقت كان السادات يخوض معركة ضارية مع كل خصومه في الداخل والخارج، وظهر سؤال مخيف ومحبط: ماذا لو أقامت إسرائيل سفارتها في القاهرة، وتم التعاون الفني والثقافي بيننا وبينهم، وكانت إسرائيل حريصة جدا على ذلك، ثم لم تنسحب من بقية سيناء لسبب أو آخر؟

في تلك اللحظات البعيدة، بدأت فكرة «عدم التطبيع» التي تحولت بعد ذلك إلى ثابت من الثوابت الوطنية، ثم إلى تهمة وجريمة ثم إلى عفريت يظهر للناس ليلا ونهارا، وكان آخر من وجهت له هذه التهمة وظهر له هذا العفريت هو الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية بعد أن ذهب إلى القدس وصلّى في الجامع الأقصى ضمن وفد أردني رفيع.

كان من المستحيل على الحكومة في ذلك الوقت أن تشارك في صنع هذه التهمة، وتحضير ذلك العفريت. كان من المستحيل عليها بالطبع أن تقدم علنا على أية خطوة تنتهك بها مواد الاتفاقية، لذلك (أوكلت) الأمر للنقابات، هكذا اجتمع مجلس إدارة النقابات الفنية الثلاث، السينمائيين والمهن التمثيلية والموسيقى، وأصدروا قرارا ليس بعدم التطبيع ولكن بعدم (التعاون فنيا مع إسرائيل) بعدها بدأت بقية النقابات في اتخاذ نفس القرار ولكن بعد إعطائه اسمه الحالي وهو «التطبيع» بالطبع كانت الحكومة على المستوى السياسي في الداخل والخارج بعيدة تماما عن هذه القرارات، إنها قرارات اتخذتها النقابات وهي نقابات حرة كما يعرف القاصي والداني، وكانت هناك مقولة شهيرة للحكومة: «واحنا مالنا وحكاية التطبيع.. الناس مش عاوزة.. حانضربها على إيديها عشان تطبّع؟».

هناك نصيحة شعبية شهيرة (امشي عدل يحتار عدوك فيك) وهو ما نسميه الاستقامة، وفي غيابه يبدأ الإنسان بالسير في خطوط متعرجة تضمن له الدوران حول نفسه بغير هدف. هذا هو بالضبط ما يحدث للبشر عندما يقومون بالفعل ونقيضه في الوقت نفسه، وهو السلوك الذي نصفه بالـ(Ambivalence) إنها الحالة العقلية التي تدفعك إلى فعل الشيء وعكسه، أن تدفع شيئا بعيدا عنك وأن تجذبه إليك بنفس القوة في ذات اللحظة. إنها ليست الازدواجية المعروفة في عالم السياسة، فالكيل بمكيالين عملية واعية يقدم عليها رجال السياسة وغيرهم وهم واعون تماما لما يفعلونه، أما الحالة التي نحن بصددها فهي تركيبة عقلية ضاغطة ربما تكون ناتجة من انعدام الخبرة والثقافة العامة أو الرغبة في الحصول على اللذة التي يوفرها السلوك الملتوي لبعض الناس.

حول النظام القديم عملية التطبيع من تطبيع عام لصالح المصريين إلى تطبيع خاص لصالح الحبايب، هكذا تم إلحاق عفريت التطبيع بإدارة ما من إدارات الدولة، العفريت هنا ليس من حقه أو صلاحياته أن يخيف أي (مطبعاتي) بل عليه أن يخيف فقط هؤلاء الخارجين عن دائرة الحبايب. كان ذلك واضحا في حكاية تصدير الغاز لإسرائيل، الخط المستقيم يقضي بأن تقوم شركة مصر للبترول أو شركة الغاز بتصدير الغاز مباشرة لإسرائيل وأن تبذل جهدها للحصول على أعلى سعر متاح، غير أن عبقرية الالتواء تهدي الحكومة إلى شيء آخر لكي (لا يبدو) الأمر تطبيعا. هنا يتم اختراع شركة من الحبايب تشتري هي البترول وتعيد تصديره إلى إسرائيل.. أين التطبيع إذن؟ لا يوجد تطبيع.. هذه شركة مصرية تبيع الغاز لشركة أخرى مصرية.. «واحنا مالنا».

هكذا انتشرت في مصر ثقافة جديدة هي ثقافة الالتواء في التفكير، لا توجد حقيقة، لا يوجد واقع يعترف به الآخرون وعلي أنا أيضا أن أعترف به، بل الحقيقة هي ما أراه أنا وليس أنت أو هو أو هم. الحقيقة ليست ما تقيم عليه أنت الدليل، فكل ما تقدمه أنت من أدلة لا أهمية له. والصالح العام هو صالحي أنا وفئتي وطائفتي وجماعتي، وأنت عدوي لأنك تفكر بشكل مختلف عني، لا توجد حقوق وواجبات، توجد فقط القدرة على الإرغام، الحق هو ما تستطيع الحصول عليه بالقوة والابتزاز أو بالكذب والاحتيال.

تستطيع أن تقول إن ما أصفه، خاص بعدد قليل جدا من البشر، وأنا أتمنى أن تكون على صواب، غير أني أرى أنه تيار عام وإن كان ذلك لا يمنع من وجود أفراد في كل مكان ما زالوا يؤمنون بقاعدة «امشي عدل يحتار عدوك فيك».

رعب الخارج يصنع بداخلك رعبا أكبر يفسد عليك حياتك وينهي عندك أي أمل في الاستقرار والتقدم، ليس لدينا ترف الاستمتاع بفقد المزيد من الوقت، نصرة الشعب الفلسطيني تكون بإقامة الدولة الفلسطينية وهو ما يحتم وجود حكومة واحدة موحدة للشعب الفلسطيني. لا داعي للاتجار بأي بضاعة أخرى، في غياب حكومة فلسطينية موحدة تتولى التفاوض مع الإسرائيليين تفقد كل الشعارات قيمتها بل وتتحول إلى أداة للقضاء على أمل الفلسطينيين في وطن حر ومستقل.

وعلى جماعة الإخوان المصرية أن تتحمل مسؤوليتها في هذه القضية ليس بصنع الشيء ونقيضه بل بمطالبة حماس بأن توافق على حكومة فلسطينية موحدة، هذا هو الهدف وهو أيضا محطة القيام. أما حكاية التطبيع فلم يعد من الممكن تحويله إلى مكاسب خاصة للحبايب أو مصدر للخوف والتهديد.

أعرف أن الإنسان في حاجة دائمة لأحد أو شيء يكرهه، ليكن هذا الشيء هو الفقر والمرض والتخلف، ولنتعلم تمجيد العقل والحقيقة، لا داعي لإدخال المصريين في تجارب مريرة تزيدهم فقرا وعنفا.