الجانب السياسي لفتنة «الجيزاوي»

TT

ربما كان من أهم ثمار «فتنة» الجيزاوي، وهي فتنة بالمعنى اللغوي (الاختبار) لتصحيح تراكمات طويلة فيما يخص العلاقة المصرية السعودية وتحديدا في التجاذبات الإعلامية المفتعلة في مرحلة الثورة وما بعدها، بسبب ما يتوهم من موقف السعودية تجاه الثورة والذي كان صريحا في حينه أن المملكة مع خيار الشعب المصري، وأن ثمة قلقا كبيرا على مرحلة المابعد فيما يخص الاستقرار السياسي لبلد استراتيجي كمصر وهو ينسحب على كل البلدان التي شهدت تحولات جذرية وعميقة في مؤسسات الحكم.

هي «فتنة» بالمعنى الدلالي الشرعي للكلمة حيث تتحول قضية «عين» فردية إلى حدث سياسي دراماتيكي يتصدر الشاشات، ويعيد فتح ملف العلاقة بين البلدين، في حين أن «الجيزاوي» لا يدخل ضمن نطاق العمالة وهو الملف الذي فتح على خلفية الأحداث؛ بل دخل البلد بتأشيرة معتمر، كما أن الأحداث كشفت عن جهل كبير وربما تجاهل لطبيعة «القضاء» في المملكة بما يحيله إلى أنماط بدائية، فتكلم عنه مختصّون مصريون في الفضائيات بما يقترب من حدود الفضيحة العلمية، صحيح أن هناك أصواتا كثيرة تطالب بتطوير القضاء وتقنينه وإعادة النظر في جوانب إدارية وإجرائية لكن أن يعتقد قانونيون مصريون مختصون أنه يمكن الحكم غيابيا في المملكة على شخص انتقدها فهو أمر يدعو للخجل ويعكس مدى تغلغل «الصورة النمطية» التي نلوم اليوم من يكرّسها في الإعلام الغربي في عصر الانفتاح المعلوماتي.

في نهاية المطاف ليس من المهم الدخول في تفاصيل ما جرى على طريقة «مع» و«ضد»، أو حتى «الصلح خير» ومن ثم استعراض قائمة عريضة وطويلة من فضائل العلاقة بين البلدين أو ضرورياتها، المهم حتما هو قراءة للحدث من زاوية سياسية صرفة وهو ما يستدعى الحديث عن «الابتزاز السياسي» الذي مارسته قوى سياسية مصرية وأيضا شخصيات تنتمي لفضاء الإسلام السياسي بالمعنى العام، وهو ما ألقى في نظري بظلاله على القضية فزادها رهقا وتضخيما وحوّلها من مصاف «القضية الفردية» إلى «قضية رأي عام».

جذر المشكلة تمثل في الأداء السياسي للإعلام المصري، والذي يعيش مرحلة ارتباك منذ بدايات الثورة، فانتقاله من إعلام «النظام السابق» جعله يستبدل «الديكتاتور» النظام إلى «الديكتاتور» الثورة، ومن هنا نلحظ غياب أي ممارسة نقدية جادة لا سيما في الفضائيات التي تحولت فجأة إلى مسبّحة بحمد الثورة ورافضة لأي نقد أو مراجعة لمفرداتها على الواقع، بل واستطاعت - في توهم أجواء الحرية - الانحياز ضد المجلس العسكري بما يشبه الحس المؤامراتي كما هو الحال في تغطيتها لأحداث ماسبيرو وأحداث العنف في بورسعيد، والذي أكد عدم تغير الخطاب السياسي للإعلام المصري وإنما تحوّله من إعلام كان مدعوما من حكومة مبارك التي عادة ما كانت تصب قوتها في دعم مرشح للنقابة إلى أن أصبحت الثورة بديل النظام ومن يدفع بالترشيح؛ حيث انحازت لمرشح الإخوان أو حليفهم كما يحب أن يوصف ممدوح الولي على حساب يحيى قلاش مرشح الليبراليين وكلاهما كان يلعب على وتر حرية التعبير وحماية الثورة وهو ما تجاوز إلى عدم احترام الالتزامات السياسية لمصر، فأصبح الإعلام يعكس فوضى الشارع وينساق وراءه فضلا عن المنافسة بين أقطاب الإعلام المصري لا سيما الفضائيات الخاصة التي باتت تزايد في خطابها السياسي لاستقطاب أكبر قدر من الحشود الغاضبة من تردي الأوضاع والتي لا تنفك تصنع «ضحيتها» يوما بعد يوم.

الموقف من السعودية تحديدا - والجيزاوي ورقة صغيرة في مهب رياح الثورة المضطربة بعد أن تجاوز الاتهام تصريحا وتلميحا إلى الموقف من النظام السابق وهو مرتبط في السياق السعودي باحترام السيادة وحق الشعوب - انتقل إلى حديث عن دعم للإخوان تارة وللسلفيين تارة، وللمجلس العسكري على حساب باقي القوى تارة أخرى ومصدر بعض هذه الاتهامات هو الإخوان في محاولة لتفسير اكتساح السلفيين وكسبا لرضا الشارع وتحديدا قوى الثورة من الشباب، أو يكون الاتهام من شخصيات ثقافية لا ترى في السلفية إلا صورة كلاسيكية مهترئة وكأنها فكرة بالية يمكن أن تصدر برافعة المال، وهذا الاتهام عدا كونه ينم عن جهل شديد بسياق التجربة السلفية المصرية وتأثرها وتأثيرها بغيرها، فإنه ضعيف جدا إذا ما استحضرنا تصريحات زعماء سلفيين تجاه السعودية إن في أزمة الجيزاوي أو في غيرها، فضلا عن بيان حزب الحرية والعدالة التابع للإخوان والذي كرس كل معاني «الابتزاز السياسي» في لغة فوقية متعالية قفزت على أبسط أبجديات السياسة فيما يخص «السيادة» وهي حق الدولة داخل بلادها في وضع وتطبيق القوانين وفقا لإجراءات القانون الدولي الذي يتحدث بشكل تفصيلي عن معاهدات التسليم وحدود السيادة واستثناء الممثلين السياسيين بشروط مفصّلة وطويلة.

أزمة «الابتزاز السياسي» لم تكن بضاعة جماعات الإسلام السياسي وهي تخوض مرحلة استعدادها للظفر بالسلطة بأدوات أبعد ما تكون في الحنكة السياسية سواء في خطابها الداخلي غير المطمئن، أو حتى في خطابها الخارجي الذي اعتمد على رفع كروت الضغط مبكرا قبل التمكين.

الإشكالية في شخصيات مؤثرة ولها ثقلها الإعلامي سواء كانت حركية أو شخصيات ساهمت في صنع الثورة وربما كان استعجال وائل غنيم وحماسته في البداية إلى نقل الخبر المغلوط إلى وكالات الأنباء الأجنبية وتحويله إلى قضية رأي عام مثالا على هذا الاستعجال وقد اعتذر عنه بعد أن تأكد من «أصدقاء» كان بوسعه سؤالهم وهو يعلم ثقل كلماته في محيط الإعلام الجديد.

المثال الثاني وهو محبط للغاية في مجموعة من الشخصيات الفكرية المؤثرة لدى الجمهور الأوسع من أنصار الإسلام السياسي والذين تحدثوا بشكل لا يخلو من انتهازية كبيرة عن ضرورة إدراك أن مصر تغيرت ويقصد قوى الإسلام الصاعدة الجديدة، وأنه لا يمكن التعامل معها على الطريقة القديمة، وهي طريقة تعتمد الكثير من المراوغة والتلميح الذي يقول كل شيء ولا يقول شيئا، ماذا يعني أن يتحدث شخص بقامة المفكر السعودي (القطري جنسية) محمد الأحمري عقب إعلان الخبر في حسابه على «تويتر» عن أساليب الـ«إف بي آي» ضد الخصوم وتلفيق التهم الجنسية وزرع المخدرات في البيوت والسيارات، وهل يمكن أن تستهدف دولة كالسعودية بحجمها شخصا لا يكاد يعرفه أحد كالجيزاوي وبهذه الطريقة، ثم يمعن في الغرابة التي لا يمكن تفسيرها إلا بمحاولة توظيف أي حدث لتعزيز موقفه ليقول «مصر لم يعد بالإمكان التعامل معها كما كانت في السابق.. لم تعد عزبة مبارك»!!.

حديث الدكتور الأحمري الذي اقتبسته نظرا لتأثيره ومكانته، قد سبقه ولحقه كلام كثير حول التغير المصري بما يشبه «النذير العريان» أو التحذير على طريقة التخويف، فمن قائل بضرورة أن لا ندع الإسلاميين ويقصد الإخوان ليذهبوا إلى أحضان إيران كما ذهبت حماس ومن قائل أن الأهم هو تقديم المعونات الاقتصادية لكسبهم، وهي مقولات تتعامل مع تعقيد السياسية على طريقة إدارة المؤسسات الخيرية الحزبية، الأحمري وآخرون يدركون جيدا أن أي دولة أخرى بما فيها الدول الراعية للثورات كانت ستقيم الدنيا وتقعدها لو أنها تعرضت لما تعرضت له سفارة المملكة.

الأكيد أن تحولات مصر الجديدة تخصّ بالدرجة الأولى مصر ذاتها، وما حدث من الناحية السياسية هو خلل يتحمل المجلس العسكري بحكم أنه الحاكم الآن جزءا منه، حيث لا يعقل أن يحدث ما يحدث دون تدخل منه سواء كانت الاحتجاجات أو الفوضى مست سفارة أي دولة أو حتى المنشآت التابعة له، كما أن ما حدث من ناحية أخرى يدل على ضرورة قيام حركة تصحيحية فيما يخص تنظيم رعايا البلدين حيث تقيم أكبر جالية في كل بلد؛ مليونا مصري في السعودية ونصف المليون سعودي في مصر، وهي إجراءات قانونية يجب أن لا تخضع لأي مزايدة سياسية أو ابتزاز على طريقة «الفزّاعة».

أزمة مصر الحقيقية هي في اضطراب المرحلة الانتقالية وكانت «فتنة» الجيزاوي مثالا صارخا لما يمكن أن تتحول إليه قضايا صغيرة في غياب الاستقرار السياسي الذي يبدو أن مصر اليوم أحوج ما تكون إليه بغض النظر عن صانعيه وأبطاله.

[email protected]