الحاجة إلى رفاعة طهطاوي القرن الـ21

TT

لا تجد وسيطا يتفوق على التلفزيون للكشف عن واقع مأساة المسلمين والعرب في قصور آليات الذهن (Intellectual faculties) عن اختبار صدق خرافات يؤمنون بها في عصر تتدفق فيه المعلومات بلا عائق بكل اللغات.

ومثل كثير من أمراض الجسم التي كشف الطب أن سببها وجود نقص في الفيتامينات الأساسية ناجم عن سوء التغذية، فإن مأساة العقل الجماعي ناجمة عن سوء التغذية الذهنية في مرحلة الطفولة التي يتشكل فيها الإطار الثقافي للإنسان.

ووراء سوء التغذية الذهنية لأطفال العرب والمسلمين في مرحلتي رياض الأطفال والمدارس الابتدائية عدم توفير المساعدة الأساسية للتلميذ على تنمية وصقل الغريزة التي تفرق بين الإنسان وسائر الكائنات؛ غريزة حب الاستطلاع والاستكشاف. والمطلوب تدريب عقله على توظيف الآليات الذهنية لترتيب معلومات وظواهر تصادفه بتفعيل غريزة حب الاستطلاع؛ ثم أرشفة المعلومات في الذاكرة كأدوات قياس ومقارنة لبرمجة آلياته الذهنية بما يصادفه من معلومات جديدة. وهو ما يعرف بنظرية المعرفة، التي يبني عليها إخصائيو الدراسة والتعليم مناهج الدراسة الأولية للأطفال.

الفارق أن التلقين - المناقض لنظرية المعرفة - في مدارس الأنظمة الشمولية التي ابتليت بها البلدان الإسلامية يضع مادة عازلة (INSULATOR) تفصل غريزة حب الاستطلاع عن المراكز العقلية لتفعيل الآليات الذهنية.

مناهج التلقين المؤدلجة توجه تلقي المعلومات عبر فلتر التدين، وتختصر دراسة الدين إلى تحفيظ (وليس تفسير) نص القرآن بالتلقين، وبالتالي، يربط عقل الطفل لا شعوريا قدسية النص الديني بما يلقنه المعلم (الذي يحفظه القرآن)، ويؤدي التشكيك في صحة ما يلقنه المعلم للشعور بالذنب، فالخروج عن النص كفر، وتحل ذهنية التحريم محل نظرية المعرفة. إشكالية أدركها العالم الأزهري رفاعة الطهطاوي، بعد عودته من باريس عام 1831 (مشرفا على بعثة تتكون من 40 من خريجي الأزهر أرسلها محمد علي باشا عام 1826) ليبدأ نهضة تعليم (طورها نابغة البعثة علي باشا مبارك أول وزير للمعارف وصاحب أول مشروع لمحو الأمية) لم تشهد مصر مثيلا لها منذ حرق مكتبة الإسكندرية قبل 14 قرنا.

وإذا لم يعالج المتخصصون في مناهج التعليم ونظرية المعرفة المسلمون في بلدانهم هذه الإشكالية بأسلوب الطهطاوي ومبارك قبل 180 عاما، بإزالة عازل ذهنية التحريم عن عقلية تعامل الطفل مع المعلومات المتاحة وتدريبه على إخضاع المعلومة الجديدة للقياس العلمي والأدلة قبل قبولها، فإن شعوب هذه الأمم ستنحدر من موقعها الحالي (المتخلف عن ركب الحضارة الإنسانية بقرابة قرن) إلى هوة أكثر تخلفا.

ما أثار الفكرة تجربتان هذه الأسبوع:

الأولى مع إذاعة طهران (والمذيع لا يختلف عن زملائه العرب في طرح سؤال هو خطاب بلاغي يعكس موقفا سياسيا، وليس محاولة لاستكشاف معلومات جديدة يفيد بها مستمعيه).

من لهجة المذيع، وضيفه العراقي في الاستوديو، فإنهما بدوَا مقتنعين بما طرحاه وكأنه حقيقة علمية: عرب الخليج يتآمرون على سوريا لحساب أميركا التي تنفذ مخطط إسرائيل لإسقاط نظام بشار الأسد لدعمه المقاومة ضد المخطط الأميركي الصهيوني الذي يمنع الشعب السوري من تحرير فلسطين بمساعدة إيران.

بهدوء وبرود إنجليزي ذكرت المذيع بالواجب المهني لتصحيح أخطاء معلوماتية أساسية. فالسوريون تظاهروا، كالمصريين والتونسيين والليبيين قبلهم، مطالبين بالحرية والحقوق المدنية وإنهاء الديكتاتورية الشمولية بلا شعارات عن تحرير فلسطين أو معاداة إسرائيل أو أميركا. واستشهدت بمسؤولين إسرائيليين يفضلون بقاء نظام الأسد الذي لم يخرق، ولو مرة، هدنة 1973 على الجولان، وبالتالي ليس في مصلحتهم إسقاطه. شكرني المذيع وأنهى المقابلة قبل السؤال الثاني.

الثانية كانت مع فضائية لندنية باللغة العربية، مع مشاركين، معلق فلسطيني راديكالي مقيم في لندن، والآخر من بيروت. بلدان ليس فيهما ما يعوق حصولهما على أدلة التأكد من معلوماتهما مجانا.

الندوة التلفزيونية كانت قائمة على افتراض وجود استمرار مؤامرة غربية صهيونية ضد البلدان العربية أحدث أطوارها استهداف مصر بالتقسيم كما قسم الاستعمار الغربي السودان.

ولما تساءلت عن الهدف من المؤامرة اتفق الثلاثة على أنها لصرف طاقة وإلهاء كل من يتحدث اللسان العربي في الدار البيضاء أو مسقط أو حلب عن شاغله الأكبر، تحرير فلسطين، التي يفكر فيها قبل حلاقة ذقنه صباحا أو تقبيل زوجته ليلا.

سؤالي عن سبب غياب فلسطين عن شعارات كل المتظاهرين بلا استثناء، عزاه المعلق الفلسطيني إلى «تضليل الإعلام الغربي».

ولم أجد إجابة عن ملاحظة أن مصر لن تنفع فيها مؤامرة التقسيم الطائفي، لأن الأديان والأعراق لا تعيش في مناطق جغرافية منفصلة، بل يختلط أبناء وبنات الأديان والطوائف، ليس في الشارع الواحد بل في العمارة نفسها وداخل الأسرة الواحدة بالتزاوج.

وبما أننا في لندن فقد طرحت ما سيسأل عنه أي قاض في محكمة إنجليزية، من أدلة، ولو ظرفية، على وجود هذه المؤامرة.. ومن يخطط لها.. ومن المستفيد من تنفيذها.

أكد الكاتب الفلسطيني أن المؤامرة وأدلتها «معروفة للجميع». وبعد الاعتذار عن جهلي بما يعرفه «الجميع» توسلت بطلب شرح بعض هذه الأدلة. وباستثناء معاهدة «سايكس بيكو»، لم يذكر المشاركون اسما، أو وثيقة أو دليلا أو شهادة، أو حتى أحداثا مترابطة يشير تسلسلها إلى ما يعتبر أدلة ظرفية.

المشاركون ومعدو هذه البرنامج يعيشون في بريطانيا حيث الصحف اليومية - تشكيلة واسعة من اليمين إلى اليسار - تقفز من أعمدتها تحقيقات تسقط أوراق التوت يوميا عن أي حكومة. «التلغراف» المحافظة هي أكثر الصحف انتقادا لحكومة المحافظين، خاصة في مجال تعاون مخابرات بريطانيا مع مخابرات القذافي في تسليم معارضين له تعرضوا للتعذيب، وتعمق الصحافة في تغطية مقاضاتهم لحكومة بريطانيا في هذا الشأن. واستشهدت بانتقاد الصحافة حكومة توني بلير في حرب العراق. باختصار لو كانت هذه المؤامرة موجودة بالفعل، لكنا قرأنا، ولو مرة، عن كشف وثيقة، أو بريد إلكتروني، أو مكالمة تليفونية في هذا الشأن، ولكنا سمعنا أسئلة في مجلس العموم من نواب المعارضة، أو من لجان كأصدقاء فلسطين، والشبكة العربية، ومجموعة شمال أفريقيا، وغيرها.

المأساة هنا أن غياب تدريب ذهن الطفل العربي أو المسلم على استخدام أدوات التحليل الذهني لفرز المعلومات والتأكد من صحتها قبل قبولها، وترهيبه بذهنية التحريم من الخروج عما «يعتقده الجميع»، يشكلان قيدا مدى الحياة يشل قدرة العقل العربي/ المسلم على التعامل مع أبسط المعطيات، حتى ولو كان في لندن أو باريس، أو داخل أكبر كومبيوتر توصلت وكالة «ناسا» إلى تصميمه.

وللمخلصين في إصلاح المسلمين لا مفر أمامكم من التنوير عبر المؤسسة الدينية بحكمة محمد علي: ابحثوا عن رفاعة طهطاوي القرن الـ21 ليقود بعثة أزهرية إلى باريس.