عندما يذكر الشيطان اسم الله

TT

كم يخيفني الشيطان عندما يأتيني ذاكرا اسم الله، كلمات قالها أحدهم، ويقول توماس بين الكاتب الإنجليزي: «ليس الخير والعدل من صفات المؤمن فحسب، بل من صفات الشيطان أيضا، عندما يعمل تحت اسم الله».

حكم بالغة في السياسة والعلاقات الدولية وحتى في المجتمع وهي تعبر عن حذاقة سياسية لا مثيل لها. والفحوى السياسية والأمنية لهذه الحكم كبيرة وعظيمة لمن فهمها وتدبرها. ونحن اليوم في عالمنا العربي غابت عنا وعن سياسيينا، وحتى عن مسؤولينا، هذه المفاهيم واستحقاقاتها ووقعنا في إشكاليات ستجر على بلداننا ومواطنينا عواقب كارثية في المستقبل، إذا لم نسابق الزمن نحو التغيير الجذري لمنهجنا السياسي والعسكري.

لقد جاءت الثورة الإيرانية عام 1979 بعباءة إسلامية، توجس الساسة في عالمنا العربي خيفة من مظهرها بأنها شكل من أشكال الإسلام السياسي المرفوض وقتئذ، والتبس أمر الثورة الإيرانية على الجميع بين شعاراتها الإسلامية الثورية وحقيقة أهدافها الباطنية.

والأمر في حقيقته هو أن الثورة الإيرانية جاءت بالصبغة الدينية الشيعية من أجل تحقيق هدفين كبيرين لإيران الفارسية:

الهدف الأول هو تسييس الانقسام الطائفي الموجود في الدول العربية والإسلامية وخلخلة اللحمة الوطنية الداخلية في كل بلد متعدد الطوائف، وكسر العقد الاجتماعي بين أبناء البلد الواحد، من خلال زرع الفتن الطائفية في كل دولة عربية وإسلامية، وتحقيق ما لا تستطيع إسرائيل أن تحققه أبدا في هذه الدول، مهما بلغ بها من قوة. فالحرب من الخارج تعزز البنية الاجتماعية للوطن، لكن عندما تكون من الداخل عبر الفتن الطائفية والعرقية فالسقوط آتٍ لا محالة، وسيتحول البلد إلى دولة فاشلة كالعراق ولبنان.

والهدف الثاني للثورة الإيرانية هو القطبية، وذلك من خلال مبدأ ولاية الفقيه الذي ركز عليه كثيرا الخميني بعد الثورة. فبعد تسييس الانتماء الطائفي يأتي استقطاب الولاءات العابرة للحدود من أنصار ومن مؤيدي الولي الفقيه. وقد عبر عن هذه القطبية حسن نصر الله يوما عندما قال: «إن الولي الفقيه هو الذي يعين الحكام في جميع الدول الإسلامية ويعطيهم الشرعية، لأن ولايته ليست محدودة بحدود جغرافية، وإنما ممتدة بامتداد المسلمين». وهذا ما يفسر عمل إيران الدؤوب في نشر التشيع في كل الدول العربية والإسلامية. فهو ليس بهدف زيادة عدد الشيعة فحسب، بل وبشكل أهم زيادة حجم ارتباط سكان هذه الدول بإيران، وبالتالي نخرها من الداخل مع مرور الوقت.

إذن الدين كان الوسيلة للهيمنة والقضية الفلسطينية كانت المطية وبكليهما معا، ومن خلال اتباع سياسة النفس الطويل، تعزز الموقع الإيراني في المنطقة وسيتعزز أكثر فأكثر في المستقبل في حال لم تنجح الثورة السورية في هدفها، بإسقاط النظام السوري، لما لهذا النظام من دور كبير في ترسيخ المشروع الإيراني.

لقد كانت العلاقات العربية - الإيرانية قبل الثورة الخمينية تخضع لمبدأ الواقعية السياسية، من خلال تكريس التوازن الاستراتيجي بينها وبين العراق. واستمرت بعد الثورة الخمينية حتى احتدم الصراع ونشوب الحرب العراقية الإيرانية وتحجيم إيران. لكن بعد حصار العراق وسقوط بغداد وتعذر قيام قوة عربية بملء المكان، انهار مبدأ الواقعية السياسية في منطقة الخليج أمام الهيمنة الإيرانية عليها. إضافة إلى ذلك، فإن إيران أصبحت تمسك بقوى داخلية في الدول العربية عملت على استقطابها ولا تزال منذ الثورة، وهي تملك إثارتها وتسكينها متى شاءت، وتستطيع من خلالها هز الكيانات السياسية للدول العربية، كما تفعل دائما في لبنان وتفعل اليوم في البحرين.

لقد انكشفت عباءة الدين عن إيران بعد الاحتلال الأميركي للعراق، وظهرت صبغتها الفارسية الخالصة، وتبين دورها الحقيقي والمتمثل بكونها نسخة احتياطية داعمة ورديفة للمشروع الإسرائيلي في المنطقة، إلا أنها أشد خطرا. بل يمكن القول إن المشروعين الإسرائيلي والإيراني متزاوجان ومتكاملان ويتممان بعضهما البعض.

فالإسرائيلي سياسي عسكري من الخارج والإيراني سياسي اجتماعي من الداخل.

والطريق عبر كربلاء الذي قال به الخميني تبين أنه هو في الحقيقة باتجاه البحرين والإمارات والخليج العربي، عموما وليس باتجاه القدس.

ما الحل؟

1) الإيمان الثابت بأن الخطر الإيراني لا يقل أبدا عن الخطر الإسرائيلي، وأنه أصبح بالنسبة لنا في الدول العربية والخليجية خاصة مسألة صراع على البقاء.

2) يجب على الدول العربية والخليجية خاصة الكف عن سياسة التقارب والتقريب مع إيران، لأن هذه السياسة علامة ضعف ولا تزيد الجانب الإيراني إلا تماديا.

3) التعامل مع إيران على أنها دولة محتلة لأراض عربية ابتداء من إقليم عربستان (الأحواز) منذ عام 1925 ميلادية وهو الجزء الشرقي للخليج العربي، مما يؤكد الهوية العربية للخليج العربي، وانتهاء بالجزر الإماراتية ودعم تحريرها جميعا بكل الطرق الممكنة.

4) الكونفدرالية الخليجية حل ضروري لكنه غير كافٍ، فالخطر أصبح داهما والمشروع الإيراني الفارسي لن تنفع معه سياسية الردع الآن، والمطلوب هو جرأة وراديكالية في التعامل معه بحيث ننتقل من سياسة الردع إلى سياسة الهجوم بالطريقة المناسبة التي تحفظ لنا أمننا وأمن بلادنا.

5) عدم الرضوخ للتطمينات الأميركية حول أمن الخليج العربي وأنه مسؤوليتهم، فالخليج خليجنا والأرض أرضنا وبالتالي فإن الأمن أمننا، ولنأخذ العبرة من درس اقتحام روسيا لجورجيا عام 2008 وإذلالها على الرغم من التطمينات الأميركية لجورجيا، طبعا مع اختلاف الظروف المحيطة بكلتا الحالتين.

6) المصالح الأميركية مع إيران مصالح استراتيجية وحيوية متبادلة، مهمة لأميركا كما هي لإيران. لذلك فإن التعويل على الولايات المتحدة بالضغط على إيران وكبح جموحها، وإن حدث مرات، فقد لا يحدث مرة، وعندها ستكون الكارثة. وسنعرف وقتها أننا ما راعينا حق بلادنا ولا مواطنينا.

7) إيران دولة تجتمع فيها المتناقضات الاجتماعية والسياسية الداخلية أكثر من أي دولة عربية، فالبضاعة التي تصدرها لنا وتحاربنا بها يمكن أن نبادلها ببضاعة مماثلة بما يشغلها بنفسها عنا وعن الآخرين.

8) دعم الثورة السورية في هدفها بإسقاط النظام في سوريا بكل الوسائل الممكنة واعتبار الصراع في سوريا صراع الأمة بأكملها ضد المشروع الإيراني. والأخذ بعين الاعتبار أن فشل الثورة السورية وتمكن بشار الأسد مرة أخرى من سوريا يمكن أن يطيح بدول في الخليج العربي خلال سنوات. فالنظام في سوريا هو الرئة الإيرانية في الجسم العربي، كما وصفه الأستاذ الدكتور عبد الله النفيسي، بها يقوى ويتنشط المشروع الإيراني ومن دونها يخبو وينكمش. إن إيران تعي هذه الحقيقة تماما وتعتبر الصراع في سوريا صراعا من أجل البقاء، ولذلك تجدها مستنفرة على جميع الصعد لصالح النظام السوري في داخل سوريا وخارجها. فهي تزود النظام بالأسلحة والمساعدات الاقتصادية والأجهزة التقنية للتجسس والمراقبة، وتحشد الدعم السياسي العالمي له. في حين أنها تغرق المعارضة والثوار في الداخل بالأدوية الفاسدة والأغذية الفاسدة وحتى الأسلحة الفاسدة للجيش السوري الحر.

إن الانهماك الكبير في المشاريع الرخوة من استثمارات وعقارات وبنى رياضية ومؤسسات إعلامية لن يدفع الأخطار الخارجية إلا إذا تحصنت هذه المشاريع بمشاريع صلبة عمادها المؤسسة العسكرية والأمنية. فمن دون أمن لا أمان للملكية، فكل الإنجازات والنجاحات قد تصبح غنيمة للعدو كما غدت بيارات البرتقال في يافا بيد إسرائيل وكما غدت بوشهر بيد إيران.

وان كانت الدول العربية والخليجية خاصة لا تستطيع مواجهة إيران فلتكن المعركة في سوريا. ولتكن الثورة السورية هي الفرصة، فليستثمروا فيها وليدعموها. ففي سوريا اليوم يُكتب المصير لإيران والعرب. وكما قال الرياضي الأميركي برانش ريكي: «لا تترك فرصة أتتك من أجل الأمن».

* باحث في مركز الدراسات السورية في جامعة سانت أندروز بالمملكة المتحدة