الشعب لا ينتخب السمان!

TT

معظم أوروبا يعود إلى الآيديولوجيا من جديد، بعد تحرر نسبي منها لم يطُل، فهي تتجه إلى اليسار أو الاختلاف الجذري مع القائم من الأنظمة في معظم نتائج الانتخابات العامة التي تمت حتى الآن، ومن المتوقع أن تتم في المستقبل القريب، بعد أن جربت اليمين والليبرالية المحافظة فدخلت في أزمة اقتصادية طاحنة أو هذا هو الاعتقاد السائد. المحافظون والليبراليون يخسرون في معظم الانتخابات البلدية في بريطانيا، اليونان تتجه إلى الأحزاب خارج الائتلاف الحاكم، وفرنسا أيضا تنتخب اشتراكيا للرئاسة.

في عام 2012 أربع دول من أعضاء مجلس الأمن الخمس الدائمين، إما تمت لديهم انتخابات عامة أو هي في طريقها نحو انتخابات عامة؟ لدينا روسيا - إذا جازت تسميتها بالديمقراطية - ولدينا الصين التي ستشهد تغيرا في سدة الرئاسة في الشهر المقبل، كما أن لدينا قبل نهاية العام الولايات المتحدة، مرورا بفرنسا التي انتهت انتخابات الرئيس فيها قبل أيام، ومقبلة على انتخابات للجمعية الوطنية (البرلمان) في القريب.

في الانتخابات التي تمت، والتي سوف تتم في أوروبا، يميل الخبراء إلى القول إن الناخب في الديمقراطيات الغربية يميل إلى معاقبة اليمين والأحزاب الحاكمة التي تسببت في الأزمة الاقتصادية الخانقة منذ أكثر من أربع سنوات، وما زالت آثارها ظاهرة في الاقتصاد والمجتمع، من إفلاس لعدد كبير من المنشآت الصناعية والخدمية، وارتفاع حاد في نسب البطالة التي تهدد استقرار المجتمعات من اليونان إلى إسبانيا.

في محاولة الإجابة على سؤال: ماذا يعني هذا التوجه العام نحو اليسار في الغرب بالنسبة للعرب؟ وهل يمكن الاستفادة من هذا التوجه؟ أم علينا أن نتوجس الخيفة من نتائجه السياسية التي قد تقود إلى تعكير الأجواء في الشرق الأوسط؟

سوف أرجئ قليلا الإجابة على هذا السؤال المحوري إلى ما بعد استعراض سريع للفضاء الانتخابي الفرنسي، وهو الأهم في هذه الفترة، لأنه سوف يؤثر على بقية أوروبا والسياسات التي اتبعت حتى الآن في الداخل الفرنسي والأوروبي، كون فرنسا الشريك الأكبر مع ألمانيا التي تحدد تلك السياسات وترسمها.

لعب الشكل الخارجي والإعلام دورا مهما في نتائج الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة، وتحكمت في تحديد الفائز في النهاية، الذي هو حكما (رئيس وملك) في نفس الوقت، فالسلطات التي يملكها الرئيس الفرنسي لا تضاهي في قوتها للمقارنة سوى السلطات التي كان يملكها الرئيس المصري السابق (في الدستور الذي عطل أخيرا)! الفقهاء الدستوريون قالوا لنا إن الرئيس المصري السابق كان يملك نحو 60 في المائة من السلطات مرسومة له وحده في الدستور، الباقي موزع على القوى الأخرى التنفيذية والقضائية في المجتمع. الرئيس الفرنسي ربما لا يملك كل الـ60 في المائة، ولكنه يملك الكثير من السلطة إلى درجة أن البعض يسمي رئيس فرنسا الملك المنتخب، بعد تحول فرنسا إلى نظام الجمهورية الخامسة في أكتوبر (تشرين الأول) 1958، وأيضا بعد معاناة من الخلاف والاختلاف السياسي المتجذر في الجمهورية الرابعة، فقد تنازعت السلطات في فرنسا إبان حكم الجمهورية الرابعة بين المؤسسات المختلفة حتى تعطلت آليات الحكم، وتدهور الاقتصاد، وكانت مبنية على ترجيح كفة الحكم البرلماني - الذي يطالب به المصريون اليوم - فجاءت الجمهورية الخامسة لتحسم كفة السلطة للرئيس دون كثير منازع من أجل إطلاق يد مؤسسة الرئاسة في تقويم الأمر بعيدا عن تنازع السياسيين، وهكذا كان، على الرغم من أن هذا النظام الرئاسي قد خفف كثيرا من المناكفات بين السياسيين، فإنه مهد لبيروقراطية كثيفة يتحكم فيها الرئيس.

اللافت للنظر أيضا أن أول نصيحة تمثل لها فرانسوا هولاند في الانتخابات الأخيرة، كانت نصيحته بإنقاص وزنه، فقد تم التخلص من 25 كيلو من الزيادة في وزنه، حيث إن الناخب لا يميل إلى الرؤساء السمان، كما أن الأمر الآخر اللافت هو أن الفروقات في الديمقراطيات الحديثة بين المتنافسين والتي تحسم النجاح عن الفشل، هي فروقات طفيفة جدا بين كتلتين مؤيدتين لأي منهما، تبلغ عشرات الملايين، وبيضة القبان - إن صحت التسمية - هي تلك الأقلية الحرجة التي ترجح كفة هذا المرشح عن ذاك، وفي الغالب لا تتعدى الـ5 في المائة من مجموع أصوات الناخبين، مما يتيح للأقليات المتجانسة أن تكون هي القادرة على حسم الميزان لأية كفة يميل، هذا إن نظمت نفسها!

كثير من الخبراء يميلون إلى القول إنه لا فروق جوهرية بين برنامجي كل من نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند، بل تجاهل الفريقان، عن عمد، المشكلات التي تواجه فرنسا، وهي اقتصادية أولا، وأيضا مشكلاتها مع أوروبا، الفرق كان في الشكل الذي قدم به كل من المتنافسين نفسه، وأيضا مزاج الناخب الفرنسي، شيء اسمه الإيحاء بالثقة، وهو أمر عاطفي أكثر منه موضوعيا محسوبا بالقلم والمسطرة، كما يتوقع كثيرون خارج الفضاء الأوروبي السياسي. لعبت الشخصية دورا في تحديد (الملك الفرنسي غير المتوج) في مواجهة بين شخصية ساركوزي غير المقنعة إلى شخصية هولاند الذي سمح لخبراء الإعلام والميديا بأن يوجهوا حملته؛ حيث لا يخلط العام بالخاص، وحيث يبدو واحدا من الشعب في الشكل كما في المضمون، ولأول مرة في تاريخ الجمهورية الخامسة يهزم رئيس بعد فترته الأولى وهو في السلطة!

الدرس المستفاد من كل ما تقدم هو أن نتائج الديمقراطية الغربية لم تعد تحسم على مستوى الموضوع والمحتوى، بل أصبح الشكل هو الأكثر تأثيرا فيها من وزن الرئيس إلى طريقة مخاطبته للجمهور، أما أن يكون خارجا وبعيدا عن الناس أو يكون (واحدا منا)!

ماذا يعني لنا التوجه نحو التغيير في مجمل أوروبا؟ يمكن قراءة الكثير مما يتوقع في المستقبل، فالحكم الجديد، كما اليمين الأوروبي، يحتاج في هذه الفترة التاريخية والأزمة الاقتصادية العالقة، إلى كل من الطاقة (الغاز والنفط) وإلى (السوق) لتصريف منتجاته. إلا أن تلك الحاجتين لن تكونا - كما في السابق - على حساب تعطيل الدمقرطة في الشرق الأوسط، الذي ضحى بها اليمين الأوروبي لفترة من أجل الحصول على بعض المنافع فساند الديكتاتوريات. النخب الجديدة أكثر إيمانا و( ديمومة) بالدمقرطة كوسيلة لتخفيف الأعباء السياسية في الشرق الأوسط، وأيضا تجفيف منابع الإرهاب كما يراها، فخيار الدمقرطة سوف يشجع بشكل أكثر فعالية مع حقوق الإنسان على حساب الديكتاتوريات - سواء كانت ديكتاتوريات مغطاة بغطاء الليبرالية الخارجية أو بغطاء (ديني)، بقية السياسات لن تتغير كثيرا. أما الدرس الآخر الذي يعنينا فهو أن الغرب يتجه إلى إعطاء رؤساء الجمهوريات صلاحيات أكثر في أنظمة رئاسية (روسيا وفرنسا وأيضا ألمانيا) من أجل تسريع عجلة النمو وحل المشكلات، العرب خاصة في دول الربيع التي تشهد كتابة الدساتير تتجه إلى أنظمة برلمانية بسبب معاناة سلبية كثيرة سابقة مع الأنظمة الرئاسية، وهي إن فعلت ذلك فإنها تسير باتجاه معاكس لما تتوجه إليه الأنظمة الديمقراطية. كالعادة اقتبسنا أسوأ ما في النظام الرئاسي دون مرجعية قانونية، مثل المحكمة الدستورية العليا المستقلة أو نظام أحزاب متكافئ، العيب ليس في النظام ولكن في التطبيق العربي له، معنى ذلك أن الأنظمة السياسية العربية الجديدة سوف تجد نفسها في مأزق بعد قليل من التجربة مع الأنظمة البرلمانية، حقيقة الأمر ينطبق علينا القول الذهاب إلى الحج والحجاج بعد انتهاء موسمه.

آخر الكلام:

قد يكون للأقلية العربية والمسلمة في أوروبا صوت أفضل مما لها حتى الآن في الشأن السياسي في بلدان المهجر، إن هي نظمت نفسها بشكل أفضل مما هي عليه الآن، إلا أن فاقد الشيء لا يعطيه.