لمصر وللسعودية؟!

TT

سألتني المذيعة المتمرسة والقديرة في قناة «العربية» عما إذا كان ما حدث بين السعودية ومصر هو «زوبعة في فنجان»، ومن ثم فإننا سوف نصل إلى النهاية السعيدة التي ترد دائما في الأفلام العربية عندما ينتصر الخير على الشر، ويتزوج الحبيب الحبيبة، ويبدأ الجميع في البناء بعد فترة من دراما الهدم، ويصل الإنسان إلى بر الأمان بعد فترة من المعاناة التي يسود فيها ظن الخوف الدائم. جاء السؤال بعد فاصل من المتحدثين المتفائلين الذين تحدثوا بإسهاب عن العلاقات الوثيقة بين البلدين، والمصالح المشتركة، والمواقف التي وقف فيها الشقيق إلى جانب الشقيق في أزمات مختلفة؛ وهكذا، وما دام ذلك كذلك فلا بد أن الأمر كله «زوبعة في فنجان».

كان ذلك قبل زيارة الوفد المصري الكبير بقيادة الدكتور سعد الكتاتني، رئيس مجلس الشعب المصري، إلى المملكة العربية السعودية، حيث ظهر أن الأزمة - أو الحب - بين مصر والسعودية وحدت بين المصريين بأكثر مما وحدهم أي موقف آخر. فالحقيقة هي أن سفر الوفد إلى الرياض جاء في وقت لم تكن فيه الأحوال سعيدة بالمرة في مصر، حيث كان حصار وزارة الدفاع جاريا، والانقسام بين الوزارة والبرلمان ساريا، والشرخ بين حركة الإخوان المسلمين والمجلس العسكري عميقا، وحول كل ذلك كان الضجيج غالبا حول الانتخابات الرئاسية وحول كل ما يفرق الساحة المصرية. ومع ذلك ذهب الوفد وكان فيه الجميع، مشكلا أول جبهة وطنية مصرية منذ نشوب الثورة، لكي يجري رأب صدع في علاقة استراتيجية.

رغم كل ذلك فقد جاءت إجابتي على توصيف «الزوبعة في فنجان» القادم من المذيعة بالسلب، وأن المسألة يجب أن تؤخذ بالجدية التي تستحقها. لم تكن لدي مشكلة إطلاقا في وصف العلاقات الوثيقة بين البلدين، ولا التحالف الاستراتيجي منذ بداية السبعينات وحتى الآن، حتى ولو لم يوصف بهذا الوصف، وربما كان لدي إضافات عليها، حيث يذكر دائما أنه يوجد في المملكة 1.2 مليون مصري، بينما هناك أيضا نصف مليون سعودي لهم إقامة من نوع أو آخر في مصر. ومع البشر توجد التجارة والاستثمارات، أما عن التاريخ والجغرافيا فحدث ولا حرج، وهناك من تفاصيل الهجرات والنسب ما امتلأت به المجلدات. ولكن ما كان يؤرقني هو إذا كان ذلك صحيحا، وهو صحيح مائة في المائة، فلماذا حدثت الأزمة التي وصلت بالأمر إلى سحب السفير وإغلاق البعثة الدبلوماسية السعودية في القاهرة؟

الأمر هنا من الخطورة بحيث لا ينتهي بعودة السفير الهمام الصديق أحمد القطان، ولا بمجرد وصفه بأنه كان «زوبعة في فنجان» حين يدرك الجميع أنها ليست لها أهمية تذكر، ومن بعدها سوف تعود الأيام الطيبة إلى سيرتها الأولى. مثل ذلك لا يحل التناقض بين الواقع والواقعة، وكيف في علاقة بمثل هذا الوثوق تشتعل النار من مستصغر الشرر؟ وأخطر من ذلك، فلماذا تتكرر من وقت لآخر كلما جرت حادثة في أحد فنادق القاهرة من شقيق سعودي، أو تجري حادثة من نوع أو آخر لشقيق مصري يعمل في السعودية؟ ولماذا رغم كل ما تحدثنا عنه، نجد كتائب كاملة من الإعلاميين تشمر الساعد فورا لكي تكون كل الشرور قادمة من السعودية، وكل أنواع «المن» ذاهبة إلى المصريين الذين يظهرون كما لو كانوا فاقدي الإدراك للنعمة التي يحصلون عليها؟

عند كل حادثة «فردية» - وكل الحوادث فردية - تتحول إلى صلب العلاقات المصرية - السعودية وتدفع في اتجاه تدميرها رغم كل ما فيها من أبعاد تاريخية واستراتيجية. والأخطر أن مثل ذلك إذا كان جائزا في السابق - وهو ليس جائزا في أي وقت - على سبيل الافتراض، فإنه ليس جائزا الآن بشكل خاص، لأن المنطقة لم تكن في حاجة إلى متانة العلاقات المصرية – السعودية، والخليجية بشكل عام، مثل ما هي الآن. ما جرى من زلزال في العالم العربي منذ العام الماضي ما زالت توابعه تجلجل في المنطقة وتعيد ترتيب أوضاعها، وتحرك جماعات وشرائح اجتماعية، وتعيد تركيب توازنات القوى كما لم يحدث في أي وقت مضى منذ الخمسينات من القرن الماضي.

تفاصيل ذلك قمنا بشرحها في مقالات سابقة، وسوف نواصل متابعته في أيام لاحقة، ولكن المرحلة كلها لا تزال في البداية، والتوابع ترتفع إلى مرتبة الزلازل، ولا يمكن الحفاظ على توازن واستقرار المنطقة أو الأخذ بيدها إلى بر الأمان إلا ببقاء رمانة الميزان سليمة وذات عافية. وبصراحة فإن هناك مشكلة أو مشكلات مزمنة في العلاقات المصرية - السعودية لا يجري التعامل معها بالحصافة اللازمة.

وبصراحة أكثر فإن العلاقات المصرية - السعودية من الأهمية بحيث يجب ألا تترك للدبلوماسيين وحدهم. فالحقيقة هي أن للبلدين نظما قانونية وسياسية مختلفة يجب أن تكون معروفة بتفاصيلها لكلا الطرفين ولا يعاد اكتشافها في كل مرة تجري واقعة من الوقائع وكأنها ليست «واقعة» جرت فيها مخالفة من نوع أو آخر، وإنما هي حالة تربص يريد بها طرف إيقاع طرف آخر. هذه مسألة مهمة، ليس لعددها، فما جرى من وقائع عندما نتحدث عن قرابة مليونين من البشر، غير الحجاج وطالبي العمرة، تمثل نسبة تافهة بكل المقاييس، ولكن أصداءها تتعدى كل ما هو مقدر في العلاقات بين الدول.

هناك أيضا ضرورة للجنة دائمة للتفاهم الاستراتيجي بين الطرفين، مهمتها الأساسية تعميق الرؤى والتحركات المشتركة في مرحلة تحول تاريخية، ولكن يضاف إلى ذلك معالجة الأزمات «الفردية» التي تنشأ من وقت لآخر، ولا بأس من بحث التنبؤ بمثل هذه الأزمات عندما يتعرض بلد لحالة نتيجة ظروفه الداخلية، مثل مصر الآن، تجعله أكثر حساسية للوقائع أكثر مما هو معتاد. هذه اللجنة عليها أن تعرف أن واحدا من قوانين العلاقات الدولية هو أنه كلما تعمقت وتوثقت العلاقات بين طرفين لا بد وأن يخلق ذلك أعداء وتحالفات مضادة تتحرك سرا أو علنا لتدمير الثقة في العلاقة بين الطرفين. وهنا فإن الإعلام هو أمضى الأسلحة وأكثرها سهولة التي تستخدم في مثل هذه الحالة، حيث يسهل تضخيم الوقائع بينما لا يعرف أحد عن المشاريع الكبرى في السعودية التي أسهم المصريون في بنائها، ولا يعرف أحد حجم الاستثمارات العظمى التي قام بها سعوديون في مصر، بل ولا يعرف أحد حجم وعدد الأسر المشتركة بين البلدين، ولا التاريخ البشري والإنساني الذي اختلطت فيه الأسر والعائلات والقبائل. وما لا يقل أهمية عن ذلك يوجد المستقبل الذي لا يوجد فيه جسر للربط بين البلدين فقط، وإنما ترجمة علاقات اجتماعية واقتصادية واستراتيجية إلى قدرة على التعامل مع زوابع الفنجان إذا كان لها مثل هذا القدر من الضخامة.