بوتين يفقد قبضته على السلطة

TT

بددت المسيرة المناهضة لبوتين التي نظمت في موسكو قبل يوم واحد من أداء فلاديمير للقسم لتولي رئاسة روسيا التوقعات مرة أخرى. فرغم خفوت جذوة الاحتجاجات السابقة، نظم عشرات الآلاف مسيرة يوم الأحد هتفوا فيها «ارحل يا بوتين» و«روسيا من دون بوتين» و«بوتين لص». وعلى عكس المسيرات الأخرى التي تنظم منذ ديسمبر (كانون الأول) انتهت مظاهرات يوم الأحد بصدامات دامية مع الشرطة وأسفرت عن عمليات اعتقال جماعية. كان تنصيب بوتين يوم الاثنين حدثا مكلفا وربما ملكيا، كما لو كان الهدف من تلك الأبهة تعويض حدة منتقديه وإعادة طمأنة روسيا (وربما هو نفسه) على أنه لا يزال الرجل القوي، والزعيم الأوحد لـ12 عاما.

لا يزال بوتين الرجل الأقوى في روسيا، لكن المسيرات التي فشلت في إحداث تغيير سياسي فوري في روسيا تشير إلى تحولات مجتمعية خطيرة لا تزال تجري. رد بوتين على هذه التحولات بوسائله المألوفة، حيث قضى على التحديات المباشرة لاحتكاره السلطة وشدد من قبضته عليها. لكن استخدام القوة ضد المتظاهرين يوم الأحد لن يجدي، فالتوجهات الجديدة في المجتمع صارت عميقة، وسوف تضعف نظام حكمه وسيكون لها آثار دائمة على المناخ السياسي في روسيا. تشير النتائج الأخيرة إلى انقسام المجتمع الروسي إلى فئتين انتخابيتين رئيسيتين، الأولى هم الأغلبية المحافظة التي لا تزال متمسكة بالعقلية السوفياتية التي تقوم على الاعتماد على الدولة، والتي تتشبث بالوضع الراهن الذي يقوم فيه المسؤولون باتخاذ كل القرارات دون النظر إلى الشعب. وهناك أقلية حديثة اعتادت على اتخاذ قرارات مستقلة، سواء أكان في حياتها المهنية أو مواقفها أو أسلوب حياتها. تتبنى هذه المجموعات وجهات نظر متباينة إزاء شرعية القيادة، فالأغلبية المحافظة ترى شرعية الحاكم في حقيقة أنه على رأس السلطة، وهذا الافتراض يؤكد على السلوك الانتخابي الذي يلخص فوز بوتين. لكن مثل هذا التصويت لا يعني الغرام بالحاكم أو الموافقة على حكمه، فالحقيقة أن شريحة كبيرة من الروس المحافظين وأصحاب وجهة النظر المستقلة على حد سواء يعتقدون أن الموظفين المدنيين يسيئون استغلال السلطة وأن المسؤولين الحكوميين فاسدون ويبحثون عن مصالحهم الشخصية ولا يكترثون للمواطنين العاديين. وقد أظهر استطلاع الرأي الذي أجراه مركز «ليفادا سنتر» على مستوى روسيا، الشهر الماضي أن 64 في المائة من الروس يعتقدون أنهم قد يتحولون إلى ضحايا للإجراءات التعسفية وغير القانونية التي تمارسها الشرطة أو المدعون العامون وأن 55 في المائة منهم يعتقدون أنهم لا يستطيعون الاعتماد على المحاكم للحماية إذا ما وقعوا ضحية لانتهاكات الشرطة. ويعتقد ما يقرب من 50 في المائة أن الحكومة تستخدم وكالات تطبيق القانون ضد معارضيها السياسيين.

مثل هذه الردود لم تكن متسقة على مدى العقد الماضي، لكن غالبية الروس صوتوا لصالح الرئيس، ومن ثم لا يزال نفس القادة في أماكنهم. وقال ثلثا الروس لمركز ليفادا إنهم لا يتوقعون انتهاء السرقة والفساد بعد انتخاب بوتين، ولم تكن تلك التوقعات أكثر ارتفاعا مما هي عليه الآن عندما انتخب بوتين المرتين السابقتين عامي 2000 و2004. ويعتقد غالبية الروس أن بوتين يهتم بشكل أكبر بدعم المسؤولين الحكوميين الكبار أكثر من دعم المواطن العادي. جاءت هذه النتيجة في أعقاب الانتصار الكاسح الذي حققه بوتين ربيع العام الحالي، ورغم اعتقاد بعض منظمات مراقبة الانتخابات أن النتائج الرسمية تم التلاعب بها، لم يشككوا في انتصار بوتين.

وحتى وقت قريب كان الروس يتفقون على أن المواطن العادي لا يؤثر على صنع السياسة، لكن هذه المجموعة لن تقبل بالتصويت للرئيس. ولمعالجة الاختلافات في المجتمع، عرضت حكومة بوتين اتفاقين ضمنيين، فعلى صعيد الأغلبية المحافظة نص الاتفاق على «أن نقدم وأن تدينوا لنا بالولاء. وقد لا تستطيع الحكومة تقديم الخدمات مثل محاكم أو قوة شرطة موثوقة لكن سعر النفط المرتفع دعم النمو المطرد في الرواتب والمعاشات التي تمولها الدولة».

أما الصفقة مع الأقلية ذات العقلية المستقلة، فتقضي بأن: ابتعدوا عن السياسة كلية ولن نسعى إلى ملاحقتكم. لا ينبغي عليكم أن تحبونا كي تصوتوا لنا، ولكم الحرية في انتقاد أدائنا وإن كنتم تكرهوننا حقا فالباب مفتوح، أي يمكنكم ترك روسيا. وقد منح ذلك الأقلية المستقلة فرصة غير مسبوقة لإظهار قدراتها، ما داموا لا يتدخلون في السياسة.

وعلى الرغم من أن الاتفاقية الأولى لا تزال سارية، تداعت الثانية، عندما بدأت الاحتجاجات ضد حكم بوتين في شهر ديسمبر (كانون الأول) وبات واضحا أن بعض الروس لن يحولوا ظهورهم للسياسة أو الموافقة على كذب وعدم قانونية وانتهاكات السلطة. وقد أعلن الكثيرون أنهم يرغبون في إحداث فارق.

لا تزال القوى المناهضة لحكم بوتين ضعيفة، حيث يشكلون جزرا انتخابية منعزلة دون أجندة سياسية واضحة أو قائد زعيم بارز، وهو ما يمكن بوتين، حتى الآن، من تجاهلهم والمضي قدما في سياسات حكمه الاستغلالية والسلطة المركزية والاعتداء الفاضح على السلطة التنفيذية. تحدث بوتين في مراسم تنصيبه يوم الاثنين عن الوحدة والأهداف المشتركة إهانة مباشرة إلى عشرات الآلاف من المتظاهرين ضد حكمه. والآن وقد مزق بوتين هذا الاتفاق الضمني فقد صار من المتعذر استعادته مرة أخرى. ويواصل بوتين الرد على متحديه بسياسات شمولية وخطاب نفاقي، يرتبط بالتالي باتساع صفوفهم ويقوض من شرعيته بشكل أكبر وسيكون بروز قوة معارضة متسقة مسألة وقت فقط.

* خدمة «واشنطن بوست»