ساركوزي مبارك وهولاند أبو الفتوح

TT

محمد سالم صديق فرنسي من أصول يمنية، وقضى فترة طويلة من عمره في جدة بالسعودية. الفرنسية - ثقافة ولغة - أسلوب حياته رغم تدينه الشديد واعتزازه بالإسلام، وهو في ذات الوقت ليس مسيسا قدر أنه يعرف كل تفاصيل حقوقه ويحب فرنسا التي يعدها وطنه الحقيقي، دخل الجيش الفرنسي وفي ذات الوقت ظل يعطي انطباعا فريدا عن طريقة الاندماج بين هويته الفرنسية وانتمائه للإسلام، كنت أتابع معه على الفيديو لحظة بلحظة إعلان فوز هولاند وهو في الساحات يبدي فرحته الهستيرية التي أدهشتني، سألته عن سر ذلك، أجاب: ساركوزي لم يفهمنا كفرنسيين، أراد فرض أسلوب حياة أميركية ورفع راية التقشف الاقتصادي واستعدى أقليات كثيرة، لكن خطأه الأكبر أنه حاول تغيير أسلوب حياتنا، نحن نعمل بالحد الأدنى ليس لأننا كسالى لكننا نقدر الحياة كثيرا.

ديفيد كونر، رئيس تحرير مجلة «فورين بوليسي» علق في «تويتر» على خسارة ساركوزي: «من الصعب الفوز في انتخابات حين يكون المتبرع الرئيسي قد قتل في ليبيا!»، مشيرا إلى ما قيل عن دعم الرئيس الليبي السابق معمر القذافي لحملته التي أوصلته إلى سدة الرئاسة.

سجل ساركوزي المفوه خسارة مدوية، ولو كان الفارق غير كبير فهو أول رئيس في الجمهورية الخامسة يغادر بعد أول فترة رئاسية على يد مرشح ليس معروفا كثيرا خارج فرنسا صعد على أثر فضيحة منافسه في رئاسة الحزب دومينيك ستروس – كان بسبب الفضيحة الجنسية، ومع ذلك كان ذكيا جدا في إدخال ملف السياسة الخارجية لقلب حملته، وهو ما لم يكن على بال الفرنسيين المشغولين حتى الثمالة بتفاصيل أسلوب حياتهم والاقتصاد، هولاند وصف بشار الأسد بـ«الحقير»، وأكد أنه يدعم «التدخل العسكري ضد النظام السوري»، وهو ما لقي صدى كبيرا في الشارع الفرنسي الذي يتفاعل مع ما يجري في سوريا بشكل لافت جدا.

ربما ليس من المهم الحديث عن تفاصيل الفوز الاشتراكي الجديد، فأوروبا تلتفت يسارا في هذه الأيام بطريقة ستعيد صياغة الكثير من المواقف في السياسة الخارجية، كما أنه سيلقي بتبعات ثقيلة جدا على الاقتصاد العالمي، صحيح جدا أن اليسار اليوم في كل العالم يعيش تحولات كثيرة جدا في طريقة تعاطيه مع الاقتصاد، لكنه يزداد تصلبا في ما يخص الموقف من حقوق الإنسان، هولاند يعي تماما عودة اليسار الأوروبي؛ لذا كانت أولى كلماته في «ساحة الباستيل» بعد الانتصار بأنه يمثل: «بداية حركة صاعدة في كامل أوروبا وربما في العالم»، مضيفا أن ذلك سيحفز شعوبا أخرى على التغيير، كما أنه يطرح مشروعه الذي يهدف إلى إعادة مفهوم النمو إلى صلب الاتحاد الأوروبي بعد سنوات من سياسات التقشف.

هولاند والحزب الاشتراكي من ورائه، كانوا أذكياء جدا في مغازلتهم للأقليات، والحزب الاشتراكي الفرنسي يطور خطابه تجاه قضايا العرب، وخصوصا القضية الفلسطينية، على سبيل المثال فإن نواب الحزب الاشتراكي طالبوا بأغلبية ساحقة أن تتجاوز فلسطين صفة العضوية إلى مراقب، كما طالبوا أتباعهم من اليسار الفرنسي والخضر إلى مقاطعة المنتجات الإسرائيلية القادمة من فلسطين. وإزاء هذه الاستراتيجية الذكية فإن ما هزم ساركوزي في نظري بالأساس ليس أداءه الاقتصادي أو حتى سياسته الخارجية، وإنما حالة «الفزع» التي خلقها في الشارع الفرنسي الحساس جدا تجاه أسلوب الحياة، وربما كانت الجالية المسلمة المغاربية تحديدا سبب سقوطه في منح الفارق الضئيل لخصمه.

انحياز الجالية المسلمة ليس بسبب طارق رمضان، كما صوره ساركوزي، فأتباع رمضان وأغلبهم من المتعاطفين من تيار الإسلام الأوروبي، وهم مزيج من «الإخوان» والأجيال الجديدة التي تعود إلى الجذور بسبب فشل سياسة الاندماج التي كرسها ساركوزي عبر استخدامه لعدد من الطروحات المستفزة في محاولة منه لمداعبة النزعة القومية والقلق حول الهوية الفرنسية عبر بوابات الحجاب وحق التصويت للأجانب، عدا استغلاله للحرب على الإرهاب في سياساته للدمج بين مكونات المجتمع الفرنسي ومنها المكون الإسلامي.

ليس غريبا بعد كل هذا أن تعم الفرحة وبشكل مبالغ فيه الأوساط الإسلاموية، هناك الكثير من التهاني والتعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي برحيل ساركوزي على طريقة أن العالم كله يتغير، وأن «الربيع العربي» يستفيد من ذلك، هذه الفرحة الغامرة مردها ربما إلى موقف ساركوزي من قضية الحجاب وليس عن وعي بطبيعة الحراك السياسي في فرنسا. فحتى الآن لا نعلم هل سيظفر هولاند بانتصاره بأغلبية برلمانية ليستطيع تشكيل حكومته، أم أن الأغلبية اليمينية ستلقي بثقلها في الانتخابات البرلمانية، وفي هذه الحالة يكون أشبه بالرئيس الشرفي، كما أن حضور «الربيع العربي» في الشارع الفرنسي، وإن كان كبيرا، فإن نتائج هذا «الربيع» مع اللاعبين الجدد ما زالت موضع نقاش وجدل كبيرين، ففي النهاية استقر، على الأقل في وعي شريحة كبيرة من السياسيين المهتمين بالشرق الأوسط والباحثين الفرنسيين في المنطقة، أن التيار العريض من القوى السياسية الإسلاموية التي صعدت، أو تكاد، إلى سدة الحكم في أكثر من بلد هو تيار يميني على مستوى الممارسة الاقتصادية، كما أنه مدعوم برافعة الموقف الجديد من قبل الولايات المتحدة من الإسلاميين، وتحديدا جماعة الإخوان، وفي نهاية المطاف فإن حضور السياسة الخارجية لن يطغى أبدا على التحدي الحقيقي الذي يواجه هولاند والمتمثل في إصلاح العطب الساركوزي، وربما كان مؤشر المناظرة التلفزيونية الأشهر بينهما مهما، حيث استمرت 3 ساعات دون أن تخص السياسة الخارجية بأكثر من ربع الساعة.

هزيمة ساركوزي ليست إلا فصلا جديدا من تحد كبير سيواجه أوروبا، وبالتالي علاقتها بالمنطقة، فعدا وعود هولاند الحالمة ثمة أسئلة حقيقية حول مدى قدرته، وهو الموسوم بقلة الخبرة والرمادية على تخطي الأزمة الاقتصادية المقبلة، كما أن الخطاب الناعم المقابل لصرامة وصلف خطاب ساركوزي لا يعني بالضرورة تغيرا في المواقف تجاه القضايا الأساسية قدر أنه قد يتسبب في الدفع بإشكاليات أكثر تعقيدا، لا سيما مع تطورات الأحداث في المنطقة جراء مخاض «الربيع العربي» الذي لم يستقر على حال بعد.

سياسة التقشف التي أطاحت بساركوزي وبفارق ضئيل جدا تعكس قلق المجتمع الفرنسي أكثر من تقييم أدائه، فالتعامل مع ردود فعل الشارع تجاه صرامة قوانين التقشف الأوروبية أكثر سهولة من السيطرة على نتاج العجز المالي في حال تعمق الأزمة الاقتصادية، وهو ذات الشيء الذي تعاني منه المنطقة في تعاطيها مع مسألة الثورات بطريقة غير واقعية. وربما نظرة فاحصة على اقتصادات عهد مبارك مقارنة بحجم التراخي في حسم الحالة السياسية، وبالتالي تضخم التحديات الاقتصادية، تدل على أن الاقتصاد لا يتأثر بالكلام المعسول أو حتى التقدم في جوانب الحقوق الإنسانية، أرقام النمو في دول الاتحاد الأوروبي مخيفة، كما هو الحال في اقتصادات دول «الربيع العربي»، والفرحة بالتغيير في الجانبين مرتبطة بملفات غير اقتصادية، وهو ما يدعو لذات القلق.

خلاصة القول: لم يكن ساركوزي مبارك، ولن يكون هولاند أبو الفتوح كما تصوره الفرحة الغامرة التي تطغى على رد الفعل العربي.

[email protected]